حقوق الأفراد: الحرية الفردية ووثيقة الحقوق
مقـــدمـــة
نعتقد أن هذه الحقائق بديهية، بأن كل البشر خلقوا متساوين، وأن خالقهم وهبهم حقوقاً معينة غير قابلة للتصرّف، وان من بينها الحق في الحياة، والحرية، ونشدان السعادة. ولضمان هذه الحقوق، تمّ إنشاء الحكومات بين الناس، لتستمد سلطاتها من موافقة المحكومين. - إعلان الاستقلال، الولايات المتحدة كان دوماً لكلمات إعلان الإستقلال هذه معنى خاص بالنسبة للشعب الأميركي. فهي إحدى مواثيق الحرية لدينا، وتُتلى في عدد لا يُحصى من الاجتماعات نهار الرابع من تموز/يوليو من كل سنة، وتحفظها الأجيال من تلامذة المدارس عن ظهر قلب، ويسَتشهد بها السياسيون من كل حزب، وكثيراً ما تذكرها المحاكم في قراراتها. ورسالتها، التي تدوي اليوم بنفس القوة التي كانت لها قبل ما يزيد عن قرنين من الزمن، تشدّد على أن حماية حقوق الناس تُشكّل العنصر الأساسي اللازم لإقامة حكومة مدنية والمبرر لوجودها. فلم يُخلق البشر لخدمة الحكومة كما هي الحال في المجتمعات الإستبدادية، بل إن الحكومة وُجدت لحماية البشر وحقوقهم. كانت هذه فكرة ثورية عند طرحها عام 1776، ولا زالت هكذا حتى اليوم. جون، لورد آكتون، تاريخ الحرية ومقالات أخرى (1907)
ليست الحرية وسيلة لغاية سياسية عليا. انها الغاية السياسية العليا بحد ذاتها ____________________ حاولت، في المقالات التي تلي، شرح بعض أهم تلك الحقوق، وكيف تترابط عضوياً ببعضها البعض، وكيف أن على تعريفاتها أن تتغيّر بالضرورة مع مرور الزمن. فنحن لا نعيش في عالم القرن الثامن عشر، بل في القرن الحادي والعشرين، وفي حين تُغذّي روح المؤسسين مفهومنا للحقوق التي يحميها الدستور، فان على كل جيل من الأميركيين أن يستعيد تلك الروحية بذاته، وأن يفسّرها لكي يستمتع هو أيضاً ببركاتها. سنة 1787، بعد تأجيل إجتماع فيلادلفيا بوقت قصير، أرسل جيمس ماديسون نسخة عن الدستور الأميركي الجديد إلى صديقه ومعلمه، توماس جفرسون، الذي كان آنذاك سفيراً لأميركا لدى فرنسا. رد جفرسون بأن الوثيقة أعجبته بصورة عامة، لكنه وجد فيها علّة كبرى إذ كانت تفتقر إلى قانون للحقوق. وشرح جفرسون "أن لائحة الحقوق هذه تبيّن ما للناس من حقوق على أي حكومة على وجه البسيطة". فاجأت ملاحظات جفرسون بعض الرجال الذين وضعوا الدستور؛ فالوثيقة بكاملها كانت تحتوي، في نظرهم، على قانون للحقوق طالما انها حدّدت بوضوح سلطات الحكومة. فليست هناك حاجة، مثلاً، لأية ضمانة مُعيّنة بان الكونغرس لن يؤسس كنيسة، طالما انه لم يعط أي سلطات لذلك. لكن جفرسون، الذي كان المهندس الأول لإعلان الإستقلال، كان له رأي آخر، فكثيراً ما تعدّت الحكومات في الماضي على ميادين كان من المفترض أن لا سلطة لها فيها، ولا صلاحية، وكانت النتيجة انتقاصاً من، أو فقداناً للحريات الفردية. شدّد جفرسون على عدم الثقة بالقيود المفترض وجودها ودعا إلى تحديد حقوق الناس بوضوح بحيث لا تضع أي حكومة يدها عليها أبداً. وافق العديد من الناس على مشاعر جفرسون، واشترط العديد من الولايات إضافة قانون للحقوق للموافقة على الدستور الجديد. في أول اجتماع للكونغرس، أخذ ماديسون المبادرة في صوغ هذا القانون، وفي سنة 1791، صادقت الولايات على التعديلات العشرة الأولى على الدستور الأميركي، المسماة عموماً وثيقة الحقوق. لكن تلك لم تكن الحقوق الوحيدة الواردة في الوثيقة، كما نتج عن العديد من التعديلات منذ ذلك الحين الكثير من التوسّع في مجال الحماية الدستورية لحقوق الناس. فالعديد من الحقوق في تلك التعديلات انبثقت، كما سنرى في المقالات التالية، من خلال تجارب كل من المستعمرين البريطانيين والأميركيين خلال حقبة الحكم البريطاني. تعكس جميع هذه الحقوق فهم الجيل المؤسس للصلات الوثيقة بين الحرية الشخصية والديمقراطية. فالبند الخاص بحرية التعبير في التعديل الأول، مثلاً، يُعتبر حجر الأساس للحكم الحر على مستوى العالم؛ انه، كما ورد في قول للقاضي بنجامين كاردوزو كتبه سنة 1938، "المنبت الأساسي والشرط الذي لا غنى عنه، لأي نوع آخر من الحريات، تقريباً". فالحقوق المتعددة الممنوحة للمتهمين بجرائم، والتي ترتبط ببعضها البعض بمفهوم الإجراءات القانونية المعتمدة، تعترف ليس بأن لدى الدولة موارد أهم تستطيع من خلالها محاكمة الناس، بل أن سلطة محاكمة الناس يمكن أن تتحّول، في يد الأنظمة الإستبدادية، إلى سلاح للإستبداد السياسي. فلغاية هذا التاريخ، تستخدم الدكتاتوريات الملاحقات والتوقيفات الاعتباطية والاحتجاز الطويل دون محاكمة أو إمكانية إطلاق السراح بكفالة، والتعذيب، والمحاكمات المزيفة، لاضطهاد وسحق معارضيها السياسيين. فالطريقة التي تتصرف بها الحكومات في مسائل القضاء الجنائي إشارة جيدة لمعرفة إلى أي حدّ تكون الحكومات ديمقراطية وإلى أي حدّ يسود فيها حكم القانون. على مرّ السنين، تُعدّل التعريفات لبعض الحقوق، كما تُضاف مفاهيم جديدة، مثل الخصوصية الفردية، إلى القاموس الدستوري. لكن، أيّاً كان تعريفها، فإن حقوق الناس تكمن في صميم ما يعنيه أن يكون الإنسان أميركياً. فالولايات المتحدة، من هذه الناحية، بلد فريد، كما أن تقاليدها بالنسبة للحقوق تعكس التجربة الأميركية إلى حد كبير. تُعرّف البلدان الأخرى هويتها القومية، وما تعنيه مواطنية الفرد في بلد ما، أولاً من خلال الأمور المشتركة بين المواطنين، كالإثنية، والأصل، والأسلاف، والدين، وحتى التاريخ. إلا أن هناك القليل من النقاط المشتركة بين الأميركيين في هذه الميادين، فالولايات المتحدة تعتبر الدولة الأكثر تنوعاً في تاريخ العالم. يأتي المواطنون الأميركيون من جميع القارات ومن كل بلد على وجه البسيطة؛ يمارسون عبادتهم ليس في كنيسة واحدة بل في آلاف الكنائس، والمعابد، والمساجد، والأشرام (المعابد البوذية)، وبيوت الصلاة الأخرى. فتاريخ الولايات المتحدة ليس مجرّد تاريخ هذا البلد بالذات، بل التواريخ التي جاءت بها ملايين المهاجرين. ورغم أن هناك بعض الأميركيين الذين بإمكانهم تتبع آثار إسلافهم حتى رحلة السفينة ميفلاور سنة 1619، ولآخرين ممن شارك أجداد أجدادهم في الحرب الأهلية، فهناك آخرون أُبيدت عائلاتهم بسبب الحروب في أوروبا وآسيا في القرن العشرين، ومنهم من جاؤوا بلا شيء تقريباً سوى القمصان التي على ظهورهم. ان ما يربط هذه المجموعات المتنوعّة من الأفراد معاً كأميركيين هو الإيمان المشترك بان الحرية الفردية هي الميزة الأساسية للحكومات الحرة. فعندما سمّى أبراهام لينكولن، في أواسط الحرب الأهلية الدامية، الولايات المتحدة "آخر، وأحسن رجاء على الأرض"، لم يعنِ أن هذا البلد أو سكانه هم أدبياً أسمى من الشعوب الأخرى، بل عنَىَ أن المثال الأعلى للحكومة الحرة يعتمد على التمسّك بحقوق الإنسان وحمايتها والحفاظ عليها لكي تتمكن الديمقراطية من الترسخ والنمو. أحد الأمور التي سوف تتضّح من خلال هذه المقالات هو انه بالرغم من وجود توافق واسع بين الأميركيين حول أهمية هذه الحقوق، فإن هناك خلافات أيضاً حول ما تعنيه تماماً بعض هذه الحقوق عملياً. هل تحمي حرية التعبير، مثلاً، الحماية من إحراق العلم الأميركي، أو إدخال مواد إباحية على الإنترنت؟ هل يعني منع إقامة ديانة رسمية للدولة انه لن تكون هناك مساعدات حكومية للأديان، أو تعني أنه يجب توزيع مساعدات كهذه على أسس لا يكون فيها أفضلية لأي دين؟ هل تعتبر عقوبة الإعدام ضمن حظر العقاب القاسي وغير العادي؟ تستحق هذه الأسئلة، بالنسبة للأميركيين، قيام نقاش حول السياسة العامة، نقاش لا يعني بأي حال أن الناس لا تقدّر تلك الحقوق. علاوة على ذلك، يتوقع المرء، في مجتمع متنوّع، وجود تفسيرات متعددة للحقوق. فالطريقة لفهم ما تعنيه الحقوق، بل أيضاً لماذا يدور النقاش حول معانيها، هي بمثابة اعتراف بأن مفهوم الحرية، على الأقل كما تطوّر في الولايات المتحدة، هو مفهوم متعدّد الوجوه. أولاً، هناك في المجتمعات الحرة، توتّر دائم لا مفرّ منه، بين الحرية والمسؤولية. فكل حق يقابله واجب. ويقع هذا الواجب أحياناً على عاتق الفرد الممارس لهذا الحق؛ وثمة مثل شائع يقول ان حق رفع يدك يتوقف حيث تبدأ ذقني. وفي أحيان أخرى، تتطلب ممارسة حق ما من قبل المرء، امتناع الآخرين عن التدخّل؛ فقد يدافع إنسان ما عن أفكار متطرّفة لا تعجب الناس، لكن لا يُسمح للشرطة بالتدخل في حقه بالتعبير بحرية. ان حق الإنسان بالخصوصية في منزله يعني انه لا يحق للشرطة دخول ذلك المسكن دون مذكرة ترخيص مناسبة. إدموند بورك، حول صعوبات إقامة حكومة حرة (1790) لا يحتاج تشكيل حكومة إلى فطنة عظيمة. قرروا موقع الحكم؛ وعلّموا الطاعة؛ فينتهي العمل. أما توفير الحرية فأكثر سهولة. فهي لا تحتاج إلى إرشاد؛ كل ما تتطلبه هو تخفيف القيود. أما تشكيل حكومة حرة، أي إقامة تجانس بين العناصر المتعارضة للحرية والتقييد لتقوم بعمل موحد ومتطابق، فيتطلب الكثير من الفكر؛ والتأمّل العميق، وعقل ذا حكمة وبصيرة، وقوة، ومقدرة توافقية. _______________________________ من اللازم النظر إلى هذا التوّتر (بين الحرية والمسؤولية)، في معظم الحالات، كوضع إيجابي لأنه يخلق توازناً يَحول دون تحوّل الحرية إلى فوضى، ويكبح إمكانية نموها إلى استبداد. على الناس في الأنظمة الديمقراطية إحترام حقوق الآخرين، ان لم يكن من باب اللياقة، فمن باب المفهوم الأساسي القائل بأن انتقاص حقوق فرد واحد قد يعني فقدان هذه الحقوق بالنسبة لجميع الناس. المشكلة الثانية في ممارسة الحقوق أنه كثيراً ما لا نملك تعريفاً جيداً لما تستلزمه الحقوق. في إحدى المرات وصف كبير قضاة المحكمة العليا جون مارشال الدستور على أنه وثيقة "تعداد، وليس تعريف". كان يقصد بذلك انه بالرغم من إعطاء الكونغرس بعض السلطات بموجب الدستور، إلا أن لائحة تلك السلطات لم تعرّفها بالتحديد. مثلاً، للكونغرس حق الإشراف على التجارة بين الولايات، لكن لأكثر من قرنين من الزمن لا زال النقاش قائماً حول ما تعنيه بالضبط عبارة التجارة "بين الولايات". إن كون الافتقار إلى التعريف لم يؤد إلى وقوع اضطرابات سببه أن الدستور قد وفّر آلية لتفسير الوثيقة. فحتى إذا لم يوافق الناس على ما تحدده المحكمة العليا، وهي المحكمة الأعلى في البلاد، بصدد معنى حق مُعيّن، فالانتماء إلى حكم القانون يتطلب إطاعة ذلك المعنى. وما دام تشكيل المحاكم يتغير مع الزمن، وما دام الرجال والنساء الذين يصبحون قضاة يفهمون ويعكسون المعاني المتطورة للحقوق، فان المحكمة كانت، عبر السنين، العنصر الرئيسي في المحافظة على الحقوق الدستورية الوثيقة الصلة باحتياجات زمنها. المسألة الثالثة تتعلق بنطاق الحقوق. فلو أراد إنسان ما كتابة تاريخ الولايات المتحدة، فانه سيُركزّ بكل سهولة على كيفية تطور الحقوق لتطال عدداً متزايداً من السكان. كان الإقتراع مثلاً، مقتصراً، في وقت ما، على الذكور من البيض الذكور، من أصحاب الأملاك البالغين الحادية والعشرين؛ وقد توسّع هذا الحق ليشمل تقريباً جميع الذين بلغوا سن الثامنة عشرة، من الرجال والنساء، من البيض والملونين، أصحاب الأملاك والذين لا أملاك لديهم. ولكن، حتى ما يبدو من بعيد وكأنه نصّ صريح نسبياً يضمن حرية ممارسة الشعائر الدينية يثير مسألة نطاق الحقوق. فمن الواضح انه يعنى أكثر من مُجرّد حماية أولئك الذين ينتمون إلى واحد المعتقدات السائدة؛ إذ أنه يؤمّن للمعترضين وحتى الملحدين أن أحداً لن يتدخل بشؤونهم. لكن إلى أي حد يذهب المرء في حماية الطوائف التي تُعتبر ممارساتها، مثل أضاحي الحيوانات أو تعدّد الزوجات، أموراً غريبة عن قيم البلاد؟ تصارعت المحكمة العليا مع تلك القضايا والقضايا المتصلة بها، طيلة أكثر من 200 عام، وكما علّق القاضي كينيدي أدناه، في قرار قضية إحراق علم، ان المحكمة لا تزال تواجه أسئلة صعبة جداً لتفسير المدى الذي يمكن أن تبلغه بعض الحقوق الخاصة. ____________________ القاضي أنطوني كينيدي، في الموافقة على قرار دعوى تكساس ضد جونسون (1989) الواقع الصعب هو ان علينا أحياناً اتخاذ قرارات لا تعجبنا. ونتخذها لأنها مُحقّة، مُحقّة بمعنى أن القانون والدستور، كما نراهما، يفرضان تلك النتيجة. أن التزامنا باعتماد الإجراءات القانونية عظيم لدرجة أننا، باستثناء بعض الحالات النادرة، لا نتوقف للإعراب عن إستيائنا من النتيجة، ربما خوفاً من تقويض مبدأ نُقيّمه يفرض ذلك القرار. وهذه إحدى تلك القضايا النادرة. ____________________ خلال مسار تاريخ الدولة، لا يمكن إنكار حصول هفوات في تطبيق حماية حقوق الناس. فقد طُردت طائفة المورمون من الولايات الشرقية، واضطهدت في الغرب إلى أن تخلّت عن تعدّد الزوجات. الأرقاء السود الذين حرّرتهم الحرب الأهلية وجدوا أنفسهم عالقين في أنماط عريضة من التمييز العنصري المطبقة قانونياً في الجنوب والمعروفة باسم قوانين "جيم كراو". والخوف من المتطرفين أدى إلى مخاوف من الحمر (الشيوعيين) قلّصت بصورة خطيرة الحقوق الصادرة في التعديل الأول للدستور بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. كما تمّ اعتقال الأميركيين الذين يتحدرون من أصل ياباني واحتجازهم خلال الحرب العالمية الثانية. وفي حين تبدو جميع هذه الأحداث غريبة في بلدٍ عُرف بحقوقه، فان الأخطاء لم تصدر عن جماعات تريد التخلي تماماً عن قانون الحقوق، بل جاءت من أناس حسني النية وجدوا أن قيود قانون الحقوق غير مناسبة عندما واجههم ما اعتبروه إما هدفاً أعظم أو تهديداً أساسياً لبقاء أميركا. ثمة قضية هامة أخرى لها علاقة بوضع الحقوق التي لم يؤتَ على ذكرها في الدستور. يوافق الجميع على أن الحقوق المذكورة بصراحة في التعديلات العشرة، وفي غير مكان من الوثيقة، جميعها هامة بشكل واضح، وأنها تدخل ضمن نطاق الحماية الدستورية. لكن، ما هو وضع الحقوق التي لم تدوّن صراحة؟ هل أنها موجودة؟ يتوقف الجواب على كيفية تفسيرنا للدستور، وهذا مقياس لمدى الجدية التي ينظر بها الأميركيون إلى حقوقهم، بحيث أن معنى وتفسير الدستور هما، كما كانا دائماً، مسألة رئيسية في الخطاب العام. فهناك، من جهة، مدرسة تؤمن بان الدستور يعني ما يقول وليس أكثر. فالحقوق المذكورة تجب حمايتها، ولا يجوز إنشاء حقوق جديدة بدون تعديلات دستورية. فعندما ظهرت مسألة حرية الخصوصية الشخصية في الستينات من القرن الماضي، أعلن القاضي هيوغو ل. بلاك، مُفّسر القانون المُتشدّد، "إنني أُحبّ خصوصيتي كما خصوصية الآخر، لكنني مع ذلك مُجبر على الإقرار بان من حق الحكومة التعدّي عليها ما لم يكن ذلك محظوراً بموجب نص صريح في الدستور". لكن كيف نفسر التعديل التاسع الذي يحافظ على حقوق الناس التي لم يتم ذكرها؟ لا يشير التعديل التاسع، في رأي بعض البحّاثة والقضاة، إلاّ إلى الحقوق التي كان الناس يتمتعون بها عندما أُبرم الدستور سنة 1791، وبدون أدّلة واضحة عن وجود تلك الحقوق آنذاك، فلا يمكن إدخالها في الدستور بدون إجراء التعديلات الضرورية. أما معارضو وجهة النظر هذه، فهم من أنصار ما يسمى غالباً "الدستور الحي"، أي الاعتقاد بأن الدستور يجب أن يتغيّر وأن يتكيّف مع الظروف السياسية والإجتماعية والإقتصادية المتطورة في البلاد. ومع أن التفسير لا يزال يبدأ بالكلمات الواردة في نص الدستور، إلاّ أن التشديد بات أقل على المعنى الحرفي لتلك الكلمات مما هو على الروح التي تنعشها. مثلاً، عندما نظرت المحكمة العليا لأول مرة، في العشرينات من القرن الماضي، في قضية تتعلق بالتنصّت على المكالمات التلفونية، وافقت أكثرية القضاة على أنه ما دام ذلك قد حصل خارج البناء يعني أنه لم يحصل "تفتيش" بمعنى الكلمة كما هو مستخدم في التعديل الرابع، فلا حاجة، بالتالي، إلى إصدار مذكرة تفتيش. لكن المحكمة اعترفت في الوقت نفسه بأن التكنولوجيا الجديدة جعلت من الممكن التعدّي على خصوصية منزل ما دون الدخول اليه، وهكذا تراجعت المحكمة عن موقفها وقررت أن التنصّت على الكالمات التلفونية يشكل تفتيشاً ويحتاج إلى إصدار مذكرة. ففي ملاحظة له مشهورة، شرح القاضي وليام أ. دوغلاس أن واضعي الدستور لم يكن بوسعهم أبداً أن يتصوروا تنصتاً على المكالمات لأنه لم تكن لديهم أي فكرة عن الهاتف. "الدستور الحي" يأخذ هذه التطورات في الحسبان، وعندما يجد أن التنصت على الاتصالات التلفونية كان في الواقع تفتيشاً، يمكنه التوسع في تفسير نية واضعي الدستور في الحفاظ على خصوصية منزل الفرد. هذا المنطق بالذات دفع الأكثرية في المحكمة في الستينات من القرن الماضي، إلى الموافقة على أن الخصوصية الفردية كانت أحد الحقوق التي كان الجيل المؤسس يقصد حمايتها. ____________________ رأي القاضي روبرت هـ. جاكسون، في قضية المجلس التربوي في وست فرجينيا ضد بارنت (1943) كان الهدف الأساسي لقانون الحقوق سحب بعض المواضيع من تقلبات الجدل السياسي وإبعادها عن متناول الأكثرية والرسميين الحكوميين، وتثبيتها كمبادئ قانونية تطبقها المحاكم. فحق الإنسان في الحياة، والحرية، والملكية، والتعبير الحر، والصحافة الحرة، وحرية العبادة والإجتماع، وغيرها من الحقوق الأساسية الأخرى، لا يمكن طرحه للتصويت؛ ولن يتوقف على نتائج أي انتخابات. ____________________ خشي العديد من المؤسسين، على غرار جفرسون، من سلطة الحكومة الفدرالية، وطالبوا بقانون حقوق يحدّ من سلطاتها. كانوا يعرفون أن لفكرة وضع قانون للحقوق تاريخ طويل يعود إلى الميثاق الأعظم الإنكليزي سنة 1215. وقد أصدر الإنكليز قانوناً للحقوق سنة 1689، وفي أميركا، تبنّت مستعمرة بنسلفانيا سنة 1701 شرعة للحريات. وبعد إعلان الإستقلال بوقت قصير، تبنّت ولاية فرجينيا إعلان حقوق كتبه جورج ميسون، وهو ما كان كل من جفرسون ومديسون يفكرون به عندما جاء وقت وضع التعديلات الدستورية الفدرالية. إلاّ أن تغييرات هامة كانت قد حدثت في تلك الأثناء، ومن باب المفارقة أن ماديسون، وآخرين غيره، اعتبروا أن أهمية قانون الحقوق لا تكمن في الحدّ من سلطات الحكومة بل في تقييد الناس. لقد تمّ تصميم إعلانات الحقوق الأساسية في كل من انكلترا ومستعمراتها لأجل حماية الناس من النخبة الصغيرة التي تسيطر على الحكومة. لكن، في المستعمرات الانكليزية في أميركا، أصبح الحكم أكثر ديمقراطية في القرن الثامن عشر، وهو تَطوّرٌ أطلق، ببعض أشكاله، عجلة الاستقلال التي بلغت ذروة زخمها في الثمانينات من القرن الثامن عشر. وعند ذلك أصبحت السلطة السياسية في يد الأكثرية كما الحكام لم يحكموا بموجب حق الولادة أو الثروة وحده، بل لأنهم ضمنوا موافقة الأكثرية. وهكذا تحولت عندها النقطة المركزية لقانون الحقوق إلى حماية الأقلية من الأكثرية. ____________________ جيمس ماديسون، رسالة إلى توماس جفرسون (1788) حيثما تكون السلطة الحقيقية في حكومة ما، يكون خطر الإضطهاد. السلطة الحقيقية في حكومتنا تقع في يد أكثرية المجتمع، وعلينا أن نخشى بالدرجة الأولى التعدّي على الحقوق الخاصة، ليس من أعمال الحكومة المخالفة لمشاعر ناخبيها، بل من الأعمال التي تكون فيها الحكومة مجرّد أداة بيد العدد الأكبر من الناخبين. ____________________ قد يبدو هذا غريباً بالنسبة للبعض، وعلى الأخص أن الديموقراطية تُعرّف بأنها حكم الأكثرية. لكن "الأكثرية" تعبير مُعقّد. فالناس الذين يتفقون على قضية معينة قد يختلفون بشدة حول قضية أخرى. والحكم الديمقراطي ما هو إلاّ سلسلة من التسويات ما بين أكثريات متقلبّة، إلى أن يتمكن في نهاية المطاف، من إرضاء أكثرية الناس، بمعظم النتائج، وفي معظم الأوقات. لكن بالنسبة لأي قضية مُعينّة، يمكن أن يكون الفرد ضمن الأقلية، لذلك تفرض المصلحة الخاصة إيجاد حماية خاصة للأقليات. المرء الذي يطالب بإسكات خطيب غير شعبي قد يصبح هو نفسه في يوم من الأيام المدافع عن موقف لا يلقى إستحساناً؛ ولأجل الحفاظ على حقه في التعبير الحر ضد الأكثرية، عليه المطالبة كذلك بالحماية لجميع الآخرين الذين يدافعون عن وجهات نظر مختلفة. وفي نفس الوقت، ولحماية حرية الفرد في ممارسة دينه بحرية، على المرء أن يقبل أيضاً حق الآخرين بحرية ممارسة أديانهم المختلفة. في الصفحات التالية، ثمة عودة متكررة إلى قرارات المحكمة العليا في الولايات المتحدة، وهذا مقصود، لأن المحكمة لعبت دوراً فريداً في توسيع وحماية الحريات الفردية. وإنه لمن المفارقة في مجتمع ديمقراطي، أن يكون تسعة أفراد معينين في مراكزهم لمدى الحياة، لا يمكن تنحيتهم إلاّ في حال سوء التصّرف، وغير مسؤولين أمام الشعب، هم الحكام بالنسبة لما تعنيه حقوق الناس. غير أن الدساتير وقوانين الحقوق بحاجة إلى من يسهر على تطبيقها، وهي بحاجة إلى من يقول ما هو معنى التعبير الحر في وضع معيّن، أو ما هو التصرف غير المسؤول من جانب الشرطة. لاحظ رئيس المحكمة العليا القاضي تشارلز إيفانز هيوز مرة، "أن الدستور هو ما تقول المحكمة العليا انه كذلك" والواقع أن المحاكم حددت حقوق الناس إلى حد كبير. غير أن المحاكم هي اكثر من مجرد آلية لفرض التطبيق. فقد يختلف الناس كثيراً حول ما تعنيه بعض الحقوق، لكنهم على استعداد لقبول القرارات الصادرة عن محكمة غير متحيزة بالنسبة لتلك الحقوق. لم تكن المحكمة دائماً صائبة، كما أن القضاة الذين خدموا فيها خلال القرنين الماضيين لم يروا أنهم معصومون عن الخطأ. بعض قراراتهم لم يتجاوزها الزمن؛ ومهّد غيرها المجال لتطورات جديدة. وقبل كل أمر آخر، أرست المحكمة العليا المعاني المثالية لحقوقنا، وحدّدت الدور الذي تلعبه تلك الحقوق في حياتنا المدنية، وفي بعض الظروف، مثل شرح القاضي براندايز عن التعبير الحر في قضية ويتني ضد كاليفورنيا (1927)، أصبحت بلاغة النص التفسيري جزءاً من تقاليدنا نفسها. لكن، كما يدرك ذلك أعضاء المحكمة أنفسهم، لا الديمقراطية ولا حقوق الناس يمكن أن تدوم ما لم يتمسك الناس بقوة بتلك المبادئ الأساسية. فتلك الحقوق لا تسمح بقيام مجتمع حر فحسب، بل وتعيّن أيضاً من هم الأميركيون. وهذا ليس بالأمر البسيط. في الصورة أعلاه: توماس جيفرسون وجون أدامز، وكانا اثنان من الواضعين الأساسيين لإعلان استقلال الولايات المتحدة. أدناه: جيمس ماديسون، الذي يُنظر إليه عموماً على أنه الأب الروحي لدستور الولايات المتحدة.
تاريخ النشر:
08 تموز/يوليو 2004 آخر تحديث:
|