حقوق الأفراد: الحرية الفردية ووثيقة الحقوق
الفصل الرابع: حرية الصحافة
"لا يجوز أن يَسِنّ الكونغرس أي قانون... يحدّ من حرية التعبير..." - التعديل الأول للدستور الأميركي رغم أن حرية الصحافة حق عزيز على الناس، إلا أنها تختلف عن الحريات الأخرى من حيث أنها فردية ومؤسساتية في آن. فهي لا تنطبق على حق شخص بمفرده في نشر الأفكار فحسب، بل وأيضاً على حق وسائل النشر والإذاعة في التعبير عن وجهات النظر السياسية وفي تغطية ونشر الأنباء. فحرية الصحافة هي بالتالي إحدى أُسس المجتمع الديمقراطي، وهي، كما كتب والتر ليبمان، المعلق الصحفي الأميركي المميز في القرن العشرين، "الصحافة الحرة ليست امتيازاً بل ضرورة عضوية في مجتمع عظيم". والواقع، أنه بقدر ما ازداد المجتمع تعقيداً، بقدر ما بات الناس يعتمدون أكثر فأكثر على الصحف، والإذاعات والتلفزيون للتمكن من متابعة الأنباء العالمية والآراء والأفكار السياسية. أحد المؤشرات حول أهمية الصحافة الحرة يتبيّن في أن أول عمل تقوم به القوى المُعادية للديمقراطية، عندما تستولي على بلد ما، هو كمّ فيه الصحافة. توماس جفرسون، حول ضرورة وجود صحافة حرة 1787 لما كان الأساس الذي تقوم عليه حكومتنا هو رأي الناس، فإن هدفنا الأول يجب أن يكون الحفاظ على حقهم هذا. ولو تُرك لي أمر تقرير ما إذا كان يجب أن تكون لنا حكومة بلا صحف أو صحف بلا حكومة، فإنني لن أتردّد لحظة في تفضيل الحل الأخير. إن أصول حرية التعبير وحرية الصحافة هي نفسها تقريباً، لأن الكلام الناقد للحكومة، سواء كان مكتوباً أو محكياً، كان عرضة للعقاب في ظل القانون الإنكليزي. لم يكن من المهم معرفة إذا كان المنشور صحيحاً؛ كانت الحكومة ترى في الانتقاد بحد ذاته جريمة طالما أنه يثير الشكوك حول نزاهة المسؤولين وموثوقيتهم. جاء التقدم نحو صحافة حرة، أي صحافة تسمح للناس بنشر آرائهم دونما خوف من اقتصاص الحكومة متردداً. فقد قال المفسّر القانوني الإنكليزي الكبير في منتصف القرن الثامن عشر، السيّر وليام بلاكستون، إنه على الرغم من كون حرية الصحافة ضرورية لطبيعة الدولة الحرة، فمن الممكن والواجب وضع حدود لها.
السير وليام بلاكستون، شروحات حول قوانين إنكلترا 1765 حيث يعاقب القانون الإنكليزي جرائم التجديف، والفسق، والخيانة، والهرطقة، والتحريض على الفتن، والتشهير الفاضح... فإن هذا لا يُقيّد أو ينتهك بأي شكل كان حرية الصحافة، عند فهم معناها كما يجب. فحرية الصحافة بالطبع ضرورية لطبيعة الدولة الحرة؛ لكن ذلك ينطوي على عدم وضع أي قيود مُسبقّة على النشر، ولا يعني التحرر من اللوم بما يخص المواد الإجرامية بعد نشرها. فلا شك بأنه يحق لكل إنسان حرّ، عرض أي آراء يريدها على الجمهور؛ وإن منع هذا الحق يعني تدمير حرية الصحافة: لكن إذا نشر ما هو غير لائق، أو مؤذٍ، أو غير قانوني، فإن عليه أن يتحمل عواقب طيشه. لكن ما الذي يمثل جرائم "التجديف، والفسق، والخيانة، والهرطقة، والتحريض على الفتن، أو التشهير الفاضح؟" كانت هذه الجرائم، في الواقع، تتوقف على ما تحدده الحكومة، وفي الجوهر، كان من شأن كل منشورة تنتقد سياسة الحكومة أو قادتها، ولو باعتدال، أن تقود صاحبها إلى قضاء فترة ما في السجن أو أسوء من ذلك. ففي ظل أحكام قضائية غير موضوعية كهذه، لم يكن للحقيقة أي اعتبار. حمل المستوطنون الأميركيون القانون الإنكليزي العام غير المكتوب عبر المحيط الأطلسي، ولم يُظهر المسؤولون المستعمرون الكثير من التسامح إزاء الصحافة مثلهم مثل أسيادهم في بلدهم الأم. ففي عام 1735، اتهم الحاكم الملكي لنيويورك، وليام كوزبي، ناشر إحدى الصحف، جون بيتر زنغر، بجريمة التحريض على الفتنة لانتقاده قرار كوزبي نقل قاضٍ سبق له أن حكم ضد مصلحة الحاكم في قضية هامة. فبموجب المبادئ التقليدية التي عدّدها بلاكستون، كان لزنغر الحق في نشر نقده، لكن كان عليه الآن أن يواجه العواقب. غير أن محامي زنغر، أندرو هاملتون، اقنع المُحلّفين بتبرئة زنغر على أساس أن ما نشره هذا الأخير كان صحيحاً. فعلى الرغم من أن سنوات عديدة مضت قبل أن يتم قبول فكرة الحقيقة كدفاع كامل ضد الاتهام من جانب القانون الإنكليزي أو الأميركي، فإن القضية شكلت سابقة سياسية هامة. فعندما رفض المُحلّفون الأميركيون الحكم على رجل بسبب نشره الحقيقة، أو حتى لإبدائه الرأي، بات من الصعب بالنسبة للمسؤولين الملكيين التقدّم بقضايا تنطوي على تهم بالتحريض في المستعمرات. وبحلول الثورة، وعلى الرغم من القوانين الخاصة بالكتب، كان الناشرون من المستوطنين يهاجمون التاج البريطاني وحكام الأقاليم الملكيين بحرية. إن معرفة ما إذا كان واضعو فقرة الصحافة في التعديل الأول للدستور كانوا يعتزمون دمج دروس قضية زنغر، مسألة قابلة للجدل طالما أن معظم الولايات الأميركية الجديدة تبنّت القانون الإنكليزي العام، بما في ذلك قواعده الخاصة بالصحافة، عندما أصبحت مستقلة. عندما سنّ الكونغرس قانون التحريض سنة 1798، خلال ما شابه الحرب مع فرنسا، سمح باستخدام الحقيقة كدفاع ضد تهمة التهجم المزعومة على رئيس وحكومة الولايات المتحدة، إلاّ انه تمّ تطبيق وفرض القانون بروحية دنيئة ومنحازة ضد الجمهوريين من أتباع جفرسون. فقد تجاهل القضاة الفدراليون، في الواقع، الحقيقة كوسيلة دفاع، وطبقوا القانون كما كان يفعل نظراؤهم الإنكليز، معاقبين مجرد التفوّه بالكلام كجريمة. كمثال على ذلك، انتقد ماتيو لايونز، ناشر جريدة من ولاية فرمونت، الرئيس جون آدامز "لتعطشه غير المحدود للأُبهّة المثيرة للسخرية، وللتملق الغبي، والطمع الأناني." وقد حُكم على لايونز بسبب هذه التعليقات بغرامة قدرها ألف دولار وبقي قابعاً في السجن أربعة أشهر إلى حين إكماله جمع الأموال لدفع الغرامة. انتهى مفعول قانون التحريض سنة 1801، ولم تتخذ الحكومة الفدرالية أي إجراءات بسبب انتهاك فقرة الصحافة خلال القرن التالي باستثناء بعض القيود خلال الحرب الأهلية. وتدريجياً أصبحت التهم الجنحية مسألة قانون مدني أكثر مما هو جنائي، أقامت بموجبها شخصيات بارزة دعاوى قضائية للدفاع عن سمعتها. سّن الكونغرس قانون تحريض خلال الحرب العالمية الأولى، وكما لاحظنا في الفصل المتعلق بالتعبير الحر، عولجت القضايا الناتجة عن هذا القانون أولاً باعتبارها تتعلق بالخطاب الحر، وأدّت إلى اعتماد معيار الخطر الواضح والداهم السابق ذكره. لكن لم يحدث، في ما يخصّ الصحافة الحرة، أي تطور يذكر لغاية الثلاثينات من القرن الماضي، عندما أعيد إحياء مبدأ التقييد المُسبق. فقد وجدت الصحف من خلال تطويرها لصحافة حرة حقيقية، أن لديها حليفا قويا في المحكمة العليا التي حوّلت عبارة واحدة، "أو الصحافة"، (الواردة في التعديل الأول للدستور الأميركي) إلى درع قوي لحماية حرية الصحافة. بدأت الاجتهادات القانونية الحديثة حول فقرة الصحافة مع القضية المَعْلم، نيير ضد مينيسوتا، سنة 1931. وبينما كانت القضية تبدو، للوهلة الأولى، كأنها لم تفعل أكثر من إعادة بيان وجهات نظر بلاكستون حول التقييد المُسبق، إلا أنها كانت في الواقع الخطوة الأولى نحو بناء صحافة قوية ومستقلة انطلاقاً من هذا المبدأ.
كانت ولاية مينيسوتا قد سنت قانوناً شبيهاً بقوانين الولايات الأخرى يجيز منع أي مطبوعات تنشر مواضيع "مؤذية، أو فضائحية، أو تشهيرية" باعتبارها إزعاجاً عاماً. غير أنه في هذه الحالة، كان قد تمّ إصدار قانون لإغلاق جريدة معينة هي ذي ساترداي برس التي، علاوة على نشرها هجمات عرقية ضد السود والمجموعات الاثنية الأخرى، نشرت أيضاً سلسلة مقالات حول الممارسات الفاسدة للسياسيين وكبار رجال الأعمال المحليين. أغلقت محكمة الولاية بكل سرور جريدة الساترداي برس التي استأنفت بدورها الحكم أمام المحكمة العليا. وهناك، طبّق القاضي تشارلز إيفإنز هيوز مفعول فقرة الصحافة في التعديل الأول على الولايات (كان قد طُبّق سابقاً فقط على الكونغرس)، وكرّر الفكرة القائلة إنه ليس بإمكان أي حكومة أن تحد من الحق الدستوري لنشر جريدة باستثناء حالة الطوارئ أيام الحرب. هذا لا يعني أنه لا يمكن معاقبة الصحف على أسس أخرى، أو الإدعاء عليها من قبل الأفراد بسبب تشويه السمعة. لكن المحكمة أرست القاعدة لتطورّين هامين، لم يحصلا إلا بعد أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، فشكلا الأعمدة التي تقوم عليها الصحافة الحرة الحديثة. برز التطور الأول من خلال حركة الحقوق المدنية في الستينات من القرن الماضي. كانت لدى معظم الولايات آنذاك قوانين لا تضع عملياً قيوداً مُسّبقة على الصحافة لكنها كانت تسمح بإقامة الدعاوى المدنية بسبب افتراءات تشويه السمعة إذا كانت المعلومات المنشورة تستهدف الأذى أو حتى لو جرت عن طريق الخطأ. كانت قد جرت صدامات بين المدافعين عن الحقوق المدنية والشرطة في مونتغومري بولاية ألاباما، كما أن مجموعة من منظمات الحقوق والأفراد اشتروا صفحة إعلان كاملة في صحيفة نيويورك تايمز بعنوان "تنبهوا لأصواتهم الصاعدة" شرحوا فيها الصعوبات التي تواجه ناشطي الحقوق المدنية وطلبوا الأموال لمساعدة القضية. ومع أن أ.ب. سوليفإن، قائد شرطة مونتغومري، بولاية ألاباما، لم يُذكر بالاسم في الإعلان، فقد أقام دعوى تشهير على أساس أن الإعلان يتضمن وقائع خاطئة تُشهّر بأدائه لواجباته الرسمية. حكم المحلفون المحليون لصالح سوليفإن ومنحوه تعويضاً بقيمة 500 ألف دولار أميركي ضد التايمز. لم يقم سوليفإن الدعوى ضد الجريدة لأن الأخطاء كانت ذات أهمية (قالت إحدى الجمل إن مارتن لوثر كِنغ جونيور أودع السجن سبع مرات بينما كان العدد في الواقع ثلاث مرات)، بل لأن سكان الجنوب كانوا يرون في الصحافة خصماً في معركة الحقوق المدنية، ففي كل مرة كان المحتجون يُضربون أو يوقفون، كانت الصحافة تنقل ذلك ليس إلى باقي البلاد فحسب بل إلى العالم. لم تكن جريدة التايمز الجريدة الأولى في البلاد بل كانت أيضاً الأوسع انتشاراً والأنجح، فإذا عُوقبت هي بغرامة مرتفعة (كان مبلغ 500,000 دولار أميركي يُعّد مبلغاً كبيراً من المال عام 1964)، فهذا يعني أن على الصحف الأصغر والأقل ازدهاراً أن تفكّر مرتين عند نشر الأخبار عن حركة الحقوق المدنية. بعبارة أخرى، إن ترك هذا الحكم قائماً، كان يمكن أن يكون له أثر "مرعب" جداً على حق الصحافة الحرة الوارد في التعديل الأول للدستور. لم تُسقط المحكمة العليا هذا الحكم فحسب، بل وذهبت أيضاً في عملها هذا شوطاً أبعد من قاعدة التقييد المسبق البسيطة التي وُرثت من بريطانيا؛ فقد ألغت أي نوع من معاقبة لمطبوعة عندما تتناول أخبار الموظفين الرسميين وأداء واجباتهم، إلا إذا قامت الجريدة بنشر ما تعرف أنه غير صحيح عن نية خبيثة لإيذاء سمعة الموظف الرسمي. ففي حين منعت المحكمة الصحافة من نشر أي شي، وبينما منحت في الوقت نفسه المواطنين حق إقامة الدعاوى بسبب التشهير، عالج قراراها قضية أساسية لحرية الصحافة، أي قدرتها على نشر الأخبار عن الحكومة والرسميين الحكوميين بشكل كامل وبحرية. وحتى لو كانت هناك من وقت لآخر أخطاء غير مُتعمّدة، فالأخطاء، كما شرحت المحكمة، غالباً ما تقع بسبب "الملاحقة الساخنة" للأنباء. لكن المواطنين بحاجة لأن تصلهم الأخبار كما أنه لا يجوز السماح بتهديد الصحف بالملاحقة أمام المحاكم لقيامها بوظيفتها هذه. القاضي وليام برينان جونيور، في نيويورك تايمز ضد سوليفإن 1964 ننظر في هذه القضية على خلفية التزام قومي عميق بالمبدأ القائل إن النقاش حول القضايا العامة يجب أن يبقى دون كبت، ونشيط، ومفتوح على مصراعيه (بالكامل)، وانه من المحتمل جداً أن يترافق مع هجمات عنيفة، ولاذعة، وأحياناً حادة بصورة غير مستحبة ضد الحكومة والرسميين الحكوميين. فالإعلان الحالي، بصفته تعبيراً عن المظالم والاحتجاج على إحدى القضايا الكبرى في أيامنا، يبدو بوضوح أنه مؤهل للحماية الدستورية. والسؤال هو ما إذا كان الإعلان يفقده هذه الحماية بسبب عدم صحة بعض الوقائع التي جاءت فيه وبسبب تشهيره المزعوم بالمدعى عليهم. التفسيرات الرسمية لضمانات التعديل الأول رفضت باستمرار الاعتراف باستثناءات لأي اختبار للحقيقة -- سواء قام به القضاة أو المحلفّون أو الإداريون الرسميون -- وعلى الأخص ذلك الذي يلقي عبء إثبات الحقيقة على المتكلم. فالحماية الدستورية تستند إلى صحة، أو شعبية، أو الفائدة الاجتماعية للأفكار والمعتقدات المقدمة... فالإساءة إلى سمعة الرسميين لا تعطي إذناً بقمع التعبير الحر الذي من المفروض أن يكون حراً، تماماً كما لا تسمح بذلك الأخطاء الخاصة بالوقائع... فإنتقاد السلوك الرسمي لا يفقد حمايته الدستورية إذا كان انتقاداً فعالاً وينتقص بالتالي من سمعة الموظفين. العمود الثاني الحديث التي تقوم عليه حرية الصحافة يتعلق بما يُسمّى قضية أوراق البنتاغون التي ظهرت إثر نشر وثائق سرقها من وزارة الدفاع موظف مدني كان يعارض التورط الأميركي في حرب فيتنام. كانت الأوراق جزءاً من مراجعة رسمية واسعة النطاق جرى إعدادها سنة 1967 واحتوت على معلومات سرية تتعلق بالنشاطات العسكرية الجارية في جنوب شرقي آسيا. عرضت هذه الوثائق أفكار مُخططي السياسة وكذلك أخطاء التقدير التي قادت إلى الالتزام العسكري الأميركي المتزايد خلال إدارة ليندون جونسون. وعلى الرغم من أن رئيساً جديداً كان يجلس حينئذ في البيت الأبيض، فقد عارض ريتشارد نيكسون، نشر هذه الأوراق على أساس أنها قد تضر بمصالح الأمن القومي. بدأت جريدة نيويورك تايمز بنشر أوراق البنتاغون في 13 يوليو/تموز 1971، وعندما حصلت الحكومة على أمر قضائي يمنع النشر بعد ذلك بقليل، بدأت صحيفة الواشنطن بوست نشر نسختها ن أوراق البنتاغون. وبعد أن تقدمت الحكومة من المحكمة لوقف الواشنطن بوست، التقطت جريدة بوسطن غلوب العصا. ولما اختلفت المحاكم البدائية حول ما إذا كان يمكن فعلاً تطبيق التقييد المُسّبق للنشر، ولما كانت الحكومة تريد حلّ المشكلة بسرعة، وافقت المحكمة العليا على الاستماع للقضية على أساس مُعجل. ومع أن القضاء كان يتعرض أحياناً للانتقاد لبطء عمله، تحرك القضاة هذه المرة بسرعة مذهلة. فقد قرروا النظر في القضية نهار جمعة، واستمعوا إلى الحجج في اليوم التالي واتخذوا قراراهم يوم الثلاثاء التالي، بعد انقضاء 17 يوماً فقط على بداية نشر التايمز للوثائق. وفّر القرار أوضح بيان على أن لا شأن للحكومة في محاولة وضع رقابة على الصحف أو منع الكشف عن ما قد يتبين على أنه معلومات مُربكة. واعتبر ثلاثة قضاة أنه لم يكن جائراً للحكومة مطلقاً أن تحصل على الأوامر القضائية بالمنع في المحاكم البدائية كما انتقدوا تلك المحاكم لسماحها بتلك الجهود الهادفة للتقييد المُسبق. لم تقل المحكمة إنه لا يمكن فرض التقييد المُسبق في أي حالة من الحالات (فالاستثناء الخاص بالمعلومات الحساسة بوضوح خلال الطوارئ مثل زمن الحرب ظل قائماً)، لكنه كان من الواضح أن المواد الواردة في أوراق البنتاغون لم تقع ضمن هذه الفئة. القاضي وليام أ. دوغلاس، في مداخلته الموافقة على الحكم في قضية نيويورك تايمز ضد الولايات المتحدة 1971 قد يكون لتلك الافشاءات تأثير خطير. لكن ذلك لا يشكل أساساً للسماح بالتقييد المُسبق على الصحف... كان الهدف الأكبر للتعديل الأول للدستور حظر الممارسة الجارية على نطاق واسع من جانب الحكومة لمنع نشر المعلومات المُربكة لها. ثمة نقاش واسع النطاق في البلاد حول وضعنا في فيتنام، فالمناظرات المفتوحة ومناقشة القضايا العامة حيوية بالنسبة لصحتنا القومية. لم يوافق الجميع على ذلك، وأعرب الجنرال والسفير السابق للولايات المتحدة لدى فيتنام، ماكسويل كلارك، عن امتعاض العديدين في الحكومة من قرار المحكمة. قال، إن حق المواطن في المعرفة يتوقف عند "تلك الأمور التي يحتاج لمعرفتها وهي أن يكون مواطناً صالحاً يقوم بمسؤولياته" وليس أكثر. لكن المقصد الرئيسي لقرار المحكمة كان، في الواقع، السماح للمواطنين القيام بواجباتهم. فقد أشار القاضي دوغلاس إلى وجود نقاش قومي ذي شأن جارٍ حول الدور الأميركي في فيتنام. فكيف يمكن للمواطنين تأدية واجباتهم والمشاركة بذكاء في النقاش إن هم حرموا من معلومات هامة؟ لكن النيويورك تايمز والواشنطن بوست والصحف الكبرى الأخرى ليست أفراداً بل مؤسسات كبرى يعمل فيها آلاف الموظفين ولديها أصول بملايين الدولارات. فما هي العلاقة بين إعطاء الصحف هذا الهامش الكبير من التحرك-- غالباً بشكل كيانات أعمال تجارية كبيرة -- وبين حقوق الناس؟ على المرء أن يتذكر كلمات القاضي برانديز حول واجبات المواطن التي نوقشت في الفصل الخاص بحرية التعبير، "إن النقاش العام واجب سياسي؛ وإن ذلك يجب أن يكون مبدأ أساسياً بالنسبة للحكومة الأميركية". لكن لكي يدخل الإنسان في هذا النقاش، ويتحمل مسؤولياته كمواطن، عليه أن يكون مطلعاً. فالمعلومات الدقيقة لن تأتي دائماً من الحكومة بل قد تقدمها مصادر مستقلة، كما أن بقاء الحرية والديمقراطية يتوقف على الاستقلالية التامة لتلك المصادر وعلى عدم خوفها.
توماس كارلايل عن الصحافة 1841 قال بورك إن هناك ثلاث سلطات في البرلمان؛ لكن هناك في مكان جلوس المراسلين الصحفيين، سلطة رابعة أهم بكثير من السلطات الأخرى جميعاً. ليست هذه استعارة تعبيرية أو مجرد كلام حاذق؛ بل واقع دقيق -- وذو أهمية كبرى بالنسبة لنا هذه الأيام. بتسميته الصحافة "بالسلطة الرابعة"، كان بورك يقصد أن قدراتها في التأثير على الرأي العام جعلت منها مصدراً هاماً للحكم في أي دولة. ففي الأزمنة المعاصرة، نرى دور الصحافة بشكل مختلف ولكن بمنظار شبه مؤسساتي لغاية الآن. رأى القاضي بوتر ستيوارت أن دور الصحافة جوهري في فضح الفساد والحفاظ على نزاهة العملية السياسية. وردّد زميله في المحكمة العليا، وليام أ. دوغلاس، هذا الشعور عندما شرح أن الصحافة تمنح "الجمهور حق المعرفة". فحق المعرفة حاسم بالنسبة لعملية حكم الشعب". القاضي بوتر ستيوارت حول دور الصحافة الحرة 1975 إن ضمان الصحافة الحرة هو، في الجوهر، نصّ بنيوي في الدستور. فمعظم النصوص الأخرى في قانون الحقوق تحمي حريات معينة أو حقوقاً محددة للأفراد... وعلى عكس ذلك، تزود الفقرة الصحافة الحرة بالحماية لمؤسسة. المثل الجيد حول كيفية قيام الصحافة بهذا الدور البنيوي يتعلق بنظام القضاء الجنائي. فإلى جانب حماية حقوق المتهمين التي نوقشت في فصول أخرى، يحتاج المواطنون لمعرفة ما إذا كانت الإجراءات الإدارية للقضاء تعمل. هل المحاكمات نزيهة؟ هل تجري بسرعة أم أن هناك تأخيرا يُسّبب الأذى؟ فالشخص العادي ليس لديه الوقت للذهاب إلى دار العدل المحلية وحضور المحاكمات أو حتى تمضية ساعات للاستماع إلى نقل وقائع بعض المحاكمات على التلفزيون. فهو، بدلاً من ذلك، يجمع المعلومات من الصحف، سواء في الصحف الصباحية أو في الأنباء المسائية في التلفزيون أو الإذاعة. فإذا ما حُرمت الصحافة من حضور المحاكمات، فإنها لن تتمكن من تقديم تلك المعلومات التي هي "جوهر عملية حكم الشعب". لكن، ماذا يمكننا القول حول ضرورة إجراء محاكمات عادلة؟ أفلا يجب عدم استبعاد الصحافة إذا كانت الجريمة شنيعة بنوع خاص، وإذا كانت العواطف المحلية متأججة، وإذا كان من شأن الدعاية أن تُضّر باحتمال اختيار هيئة مُحلفين غير مُتحيّزين ؟ الجواب حسب المحكمة العليا، هو كلا. "أن التقييد المُسبق للتعبير والنشر هو الأخطر والأقل قبولاً من أي انتهاك حر للحقوق التي يعينها لتعديل الأول" حسب قول رئيس المحكمة وارين أ. بيرغر. فلدى القضاة وسائل منوعة في متناولهم للتعاطي مع تلك المسائل بما في ذلك أوامر إسكات الدفاع ومقاضاة المحامين، ونقل مكان المحاكمة إلى بيئة أقل انفعالاً، واحتجاز المُحلفين. القضية المفصلة في تغطية الصحافة للمحاكمات تُعرف بقضية ريتشموند نيوزبايبرز ضد فرجينيا (1980)، وتعزز حق الناس في المعرفة عبر جهود الصحافة الحرة. فقد جرى توقيف رجل بتهمة ارتكاب جريمة، وجرت عبر عدد متنوع من المشاكل ثلاث محاكمات خاطئة. وعندما بدأت المحاكمة الرابعة، اتفق كل من القاضي والادعاء العام ومحامي الدفاع على وجوب إقفال قاعة المحكمة بوجه المشاهدين والصحافة. أقامت الصحيفة المحلية دعوى اعتراضاً على حكم القاضي وعَمدَت المحكمة، في قرار هام، إلى المقارنة بين مصالح التعديلين الأول والسادس -- حق الصحافة الحرة مقابل حق المحاكمة النزيهة، ووجدت أنهما متوافقان. كانت ضمانة التعديل السادس للدستور حول "المحاكمة السريعة والنزيهة" لا تعني حماية المتهم من المحاكمات السرية الظالمة فحسب، بل وأيضاً حق الجمهور في حضور المحاكمات والإدلاء ومشاهدتها. وطالما كان من غير الممكن عملياً بالنسبة لجميع أهالي فرجينيا، أو حتى مدينة ريتشموند، حضور المحاكمة، كان من الواجب بالتالي السماح للصحافة بنقل الإجراءات والمساعدة في التأكد بأن المحاكمة قد جرت بطريقة نزيهة. رئيس المحكمة وورن أ. بورغر حول قضية ريتشموند نيوزبيبرز ضد فرجينيا 1980 لقد سُنّ قانون الحقوق على خلفية التاريخ الطويل للمحاكمات التي من المفترض أن تكون مفتوحة. كان ينظر إلى وصول الجمهور إلى المحاكمات آنذاك كمظهر هام من العملية نفسها؛ وكان ينظر إلى إدارة إجراء المحاكمات "أمام أي عدد من الناس الراغبين في الحضور" كإحدى "الميزات التي لا تقدر بثمن لتشكيل حكومة إنكليزية حرة". ففي ضمانه للحريات مثل حرية التعبير والصحافة، كان بالإمكان قراءة التعديل الأول على أنه يحمي حق أي إنسان في حضور المحاكمات لإضفاء معنى على تلك الضمانات الصريحة. "التعديل الأول يذهب إلى أبعد من حماية الصحافة وحرية تعبير الأفراد عن آرائهم ليحظر على الحكومة تحديد مخزون المعلومات التي يمكن لأعضاء الجمهور الاستقاء منها ". فحرية التعبير تحمل معها حرية الاستماع. لقد استشهدت هذه المحكمة، في سياقات متنوعة، بحق تلقّي المعلومات والأفكار الذي ينص عليه التعديل الأول. ومعنى ذلك في مجال المحاكمات هو أن ضمانات التعديل الأول للتعبير والصحافة، وحدها، تحظر على الحكومة إقفال أبواب قاعات المحاكم بصورة اعتباطية بعد أن كانت لزمن طويل تشرعها أمام الجمهور عندما تمّ تبني التعديل. "ذلك أن التعديل الأول لا يتكلم بصورة ملتبسة ... فيجب قراءته كأمر بالمجال الأوسع الذي تسمح به اللغة الصريحة ضمن مجتمع يعشق الحرية". رغم أن هذه القضية تتعلق بمحاكمة جنائية، فإن الفلسفة نفسها تنطبق على المحاكمات المدنية كذلك. علقّ أوليفر وندل هولمز (قاض في المحكمة العليا من سنة 1902 لغاية 1932) بقوله إن رقابة الجمهور تُوفّر ضمان الإدارة الصحيحة للعدالة. فقد كتب "إنه من المرغوب فيه أن تجري محاكمة القضايا [المدنية] أمام أعين الجمهور، ليس لأن الخلافات بين مواطن وآخر ذات اهتمام عام، بل لأنه أحد أهم الأوقات التي يجب أن يعمل فيها دوماً الذين يطبّقون العدالة وذلك على أساس الإحساس بالمسؤولية العامة التي تقول أن كل مواطن يجب أن يتمكن من التأكد بنفسه وبأعينه هو، من الطريقة التي يتم فيها تأدية واجب عام." نقلت التطورات التكنولوجية الحديثة فكرة حضور الجمهور للمحاكمات إلى موقع جديد. فعلى الرغم من عدم وجود حق دستوري في وضع آلات تصوير في قاعات المحاكم، أقرّت عدة ولايات قوانين تسمح بنقل وقائع المحاكمات على الهواء. كان ذلك غير ممكن عملياً، في أولى سنوات التلفزيون، بسبب حجم الكاميرات، والحاجة إلى أنوار ساطعة، وإلى وصل كل شخص بالمذياع. اليوم، يمكن تغطية قاعة المحكمة كلها بعدد قليل من الكاميرات الصغيرة المخبأة عملياً مع مراقبين لها في الغرف الملاصقة أو في سيارات متوقفة في الخارج. فبعد أن بدأت كتجربة، دلّت تغطية التلفزيون للمحاكمات على أنها مرغوبة شعبياً وكما أن هناك شبكة تلفزيون أميركية على الكابل تُعرف بتلفزيون المحكمة متخصصة ببث المحاكمات وكذلك التعليقات من جانب المحامين وأساتذة القانون. وهكذا، تستمر وسائل الإعلام بلعب دور الوسيط بين الجمهور والنظام القضائي ولكن بطريقة جديدة تعطي المشاهد فكرة أفضل عما يحصل. (ويتم بنفس الطريقة عادة نقل محاضر جلسات مجلسي الكونغرس، وجلسات الاستماع إلى الشهادات، والمجالس التشريعية للولايات على شبكات الكابل، وعلى الأخص شبكة "سي سبان" (C-SPAN)، وهي مثال آخر عن الوسائل التي تخدم في إقامة الاتصال بين الناس وعمل الحكومة. يُعتبر مفهوم "حق المعرفة" المستقى من فقرات التعبير والصحافة في التعديل الأول جديدا نسبياً في الفكر السياسي والقضائي الأميركي، لكننا نرى، مرة أخرى، أن الديمقراطية والحريات الملازمة لها ليست ساكنة، بل إنها حالة متحركة تتطور مع التغييرات في المجتمع نفسه. "فحق الناس في المعرفة" مرتبط بشكل وثيق بحرية الصحافة لكنه يستند أيضاً إلى الاهتمامات الأوسع للديمقراطية. إذا عنينا بالديمقراطية، كما قال أبرهام لنكولن، "حكومة الشعب، من الشعب، وللشعب"، فإن شأن الحكومة هو بالتالي شأن الشعب، وهذا هو المكان الذي يتقاطع فيه الدور البنيوي للصحافة الحرة مع مصادر اهتمامات المواطنين بالديمقراطية. لكن هذا المبدأ غير واضح بالكامل. فلا الناس ولا الصحافة يجب أن يعرفوا كل ما يجري في الحكومة. فالمسائل المتصلة بالأمن القومي، والشؤون الخارجية، والمناقشات الداخلية حول تطور السياسة ليست، لأسباب واضحة، قابلة لرقابة الجمهور في حينها. فكما كتب الأستاذ في كلية للحقوق، رودني أ. سمولا، وهو مرجع مهم بالنسبة للتعديل الأول، "يجب أن تكون الحكومات الديمقراطية، حكومات منفتحة جداً وشفافة. لكن حتى الحكومات الأكثر انفتاحاً وديمقراطية سوف تطالب في بعض الحالات، ببعض الإجراءات السرية أو الخصوصية لكي تعمل بصورة صحيحة".
وفيما يبدو هذا أمر يتوقف مع الفطنة الفطرية، يدل واقع المسألة على أن هناك قوتين متنافستين تعملان. فمن جهة، لا يرغب الرسميون الحكوميون، على كل الأصعدة، حتى في مجتمع ديمقراطي، في مشاركة الصحافة أو الجمهور المعلومات؛ ومن جهة ثانية، كثيراً ما تريد الصحافة، يساندها الجمهور، الحصول على معلومات أكثر مما تحتاجه حقاً. لأجل حلّ هذا التوتر، أقر الكونغرس الأميركي سنة 1967، قانون حرية المعلومات (المُسمّى عادة FOIA). لقد أقر القانون بتوصية من مجموعات مصالح تمثل الصحافة والجمهور التي اعتبرت أن القانون الفدرالي القائم، والهادف إلى جعل المعلومات في متناول الجمهور كثيراً ما كان يستخدم لأغراض معاكسة تماماً. فكما كان يجري تفسير القانون، كانت المحاكم تقرر باستمرار أن القاعدة هي نشر المعلومات، كما أن على الوكالات الحكومية أن تستجيب بسرعة وبأمانة لمطالب المواطنين الخاصة بالمعلومات. وقد أقرّت جميع الولايات قوانين مشابهة لقانون حرية المعلومات جاءت بمثابة تكملة للقانون الفدرالي، بالنسبة لأعمال الحكومات المحلية وسجلاتها. بموجب هذا القانون، أصبح بوسع المواطنين، الأفراد والصحفيين، تقديم طلبات بموجب قانون حرية المعلومات، لكن الصحافة كانت عملياً هي التي تتقدم بالأكثرية الكبرى من الطلبات. كان بوسع فرد ما، وحتى باحث مُدّرب، يقوم بتقفي آثار عدد محدد من المواضيع أن يبني عليها طلبه بموجب قانون حرية المعلومات، بينما تستطيع الصحف ومحطات التلفزيون بما فيها من أعداد كبيرة من العاملين تكليف فرق كاملة للعمل حول مشكلة عامة؛ وكما كانت لديها الموارد لدفع التكاليف اللازمة لنسخ أعداد كبيرة من الوثائق. من الواضح أن التحقيق في كل صفقة حكومية، وتغطية كل محاكمة، وإعداد التقارير عن كل استماع تشريعي تتعدى قدرات الوسائل المطبوعة والمذاعة، لكن تلك الاستحالة هي ما يجعل الصحافة الحرة أمراً جوهرياً بالنسبة للديمقراطية. لكن الفرد يمكنه أن يستفيد من التغطية المشتركة التي ترسل على شبكات وكالات الأنباء أو التي تنشرها الصحف المحلية، كما مشاهدة جلسات الاستماع أو المحاكمات على التلفزيون، بل وحتى الاستفادة من مواقع الأخبار والتعليقات الكثيرة على الإنترنت. فلم يسبق، منذ أن عاش البشر في قرى صغيرة، أن أُتيح ذلك للمواطن الفرد، وإن هو أراد الاطلاع على هذا النحو على أعمال الحكومة. هذه المعرفة هي التي تمكنه من الاقتراع بذكاء، ومن توقيع عريضة تؤيد أو تعارض اقتراحات ما، ومن كتابة الرسائل إلى المجالس التشريعية، وإداء واجبات المواطن بشكل عام. وهذا غير ممكن بدون صحافة حرة. لكن، هل باستطاعة الصحافة أن تذهب إلى أبعد من اللازم؟ فأي حرية إذا استخدمت حتى حدودها القصوى تقود إلى إساءة الاستعمال. ففي الوقت الذي يصفّق فيه الكثيرون لعمل الصحافة في كشف الفساد الحكومي، تراهم يشكون من الاعتداء على الخصوصية الذي رافق السعي إلى معرفة كل شيء عن حياة جميع الرسميين والشخصيات السياسية. فالهاجس حقيقي، وقد استجابت له أولاً المحاكم التي وسعت حدود التعديل الأول، وفي نفس الوقت وضعت حوله بعض القيود. وفي حين تميل المنظمات الصحفية إلى التذمر من كل واحدة من تلك القيود على أساس أنها تقوّض بشكل ما الضمانات الدستورية لحرية الصحافة، فإن معظم القيود تدل على موقف فطري سليم وهو أن الصحافة الحرة ليست متحررة من جميع القيود الطبيعية على المجتمع. تتعلق تلك القيود بالحدود الموضوعة على المراسلين الذين يصرون على حماية سرية مصادرهم عندما تكون الدولة / الولاية بحاجة إلى أدلة في المقاضاة الجنائية، وكذلك الأمر بالنسبة لمسؤولية الصحفيين عن القضايا القانونية المدنية التي يكون فيها الأفراد وليس الرسميين الحكوميين عرضة للتشهير، والقيود الموضوعة على حرية الوصول إلى بعض المرافق الحكومية، مثل السجون. علاوة على ذلك، اشتكت الصحافة من أنه عندما كانت الولايات المتحدة متورطة في عمليات عسكرية، حُرِمَ المراسلون من الوصول إلى خطوط الجبهة. ولعل أفضل طريقة للنظر في هذا الأمر هو التساؤل عما إذا كان تطبيق نفس هذه القيود على الأفراد، سيكون ذو معنى، وهذا ما يحصل في معظم الحالات. فمن الصعب تصور سبب مُلزم للسماح لأي فرد بالسير حول سجن، أو بالتجّول عند خطوط جبهة القتال. ففي حين نتوقع من الصحافة أن تجمع لنا الأخبار، ندرك أيضاً أن هناك حدودا لتلك المقدرة. كانت هناك انتقادات أيضاً حول انتهاك خصوصية الموظفين الرسميين حين تقوم الصحافة بنشر تقارير عن مسائل لا علاقة لها بقدرتهم على القيام بأعمال وظيفتهم. فقد نُشرت، في السنوات الماضية، وعلى الأخص مع انتشار الإنترنت والتلفزيون الكبلي، روايات لا تُعدّ ولا تُحصى حول حياة الرسميين الحكوميين الخاصة، من الرئيس ونزولاً، كما قام نقاش حيّ حول المدى الذي سوف يصل، أو يجب أن يصل إليه هذا الاتجاه. المشهد العام مُربك بالنسبة للعديد من الناس الذين يعتقدون بوجوب التمييز الحاد بين ما هو عام وما هو خاص، وبذلك يريدون تسليط الأضواء بشدة على السلوك العام، وعدم التعرض بالكامل للحياة الخاصة. ويجيب آخرون بأنه لا يمكن أن يكون هناك مثل هذا التمييز، فالطريقة التي يدير بها الرجال أو النساء حياتهم الخاصة هي مفتاح لطباعهم الأخلاقية والتي هي بدورها عامل يحق للناس أخذه بعين الاعتبار عندما يقترعون للرسميين الحكوميين. في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، كشف المراسلون رواية حول سناتور أميركي يخطط لترشيح نفسه للرئاسة كانت له علاقات خارج الزواج. أغرقت الرواية أي آمال كانت له بالنسبة للمنصب الأعلى، وقد انتقد السناتور الصحافة بقسوة زاعماً "ليس هذا ما كان يفكر به الآباء المؤسسون قبل 200 سنة"، وفي حين اقتنع الكثيرون من الناس بصحة هذا الاتهام، فإن الواقع أن هذا النوع من الصحافة الكاشفة للفضائح ترك بصماته على بعض الآباء المؤسسين. فقد وجد كل من ألكزندر هاملتون وتوماس جفرسون أن علاقاتهما الغرامية أصبحت موضوع مقالات صحفية قاسية، إلا أن اي منهما لم يعتقد بأن الرد على ذلك يكمن في كبت الصحافة. رد هاملتون على الروايات باستخدامه الصحافة نفسها، وفي حين اعترف بعلاقة مع ماريا رينولدز، دحض الاتهامات الأخرى ضده. وقبل وفاته بقليل، دافع هاملتون عن ناشر نيويوركي أدانته إحدى المحاكم بجرم التشهير. قدم هاملتون دفاعاً رنّاناً عن قيم الصحافة الحرة، معلناً أن "حرية الصحافة هي حق نشر الحقيقة دون عقاب لدوافع حسنة ولغايات لها ما يبرّرها". من جهته، اختار جفرسون السكوت عن المزاعم حول علاقته مع إحدى جارياته، سالي همينغز. ولكن حتى عندما كان يعتقد أن الصحافة مليئة بالقدح والذّم ضده وضد حلفائه، حافظ على إيمانه بضرورة وجود صحافة حرة في المجتمع الديمقراطي. "إنهم يملأون الصحف بالأكاذيب والافتراءات والوقاحة"، قال لأحد أصحابه واستطرد قائلاً، "لكني سوف أدافع عن حقهم في الكذب والافتراء." في بداية القرن العشرين، غيّرت التكنولوجيا الجديدة بعض الحقائق والافتراضات القديمة حول دور الصحافة الحرة. فقد ظلت الإذاعة والتلفزيون، مثلاً، طيلة سنوات عديدة، تعامل كجزء من الصحافة يتمتع بحماية أقل، إذ كان هناك اعتقاد خاطئ بوجود قيود تقنية شديدة بالنسبة لعدد المحطات التي يحق لها الإذاعة على الهواء. كنتيجة لذلك، قرر الكونغرس، ووافقت المحاكم، على أن الموجات الهوائية هي ملك الجمهور، وأن بالإمكان الترخيص للمحطات على بعض الموجات. ولقاء هذه التراخيص، كان على الإذاعات ولاحقاً التلفزيون الخضوع لبعض القوانين التنظيمية الحكومية التي كثيراً ما حدّت من قدرتها على جمع الأنباء أو إذاعة مقالات افتتاحية على الهواء. وضع تطور أنظمة التوزيع عبر الكابل والأقمار الصناعية حداً للنظرية القائلة أن الإذاعة مصدر محدود، كما بدأت وسائل الإذاعة تحتل مكانها كاملاً إلى جانب الوسائل التقليدية المطبوعة.
أثار ظهور الإنترنت عدة أسئلة لن تعرف الأجوبة عليها قبل سنوات. فلأول مرة في التاريخ، يستطيع شخص بمفرده، وباستثمار بسيط، إعلان وجهة نظره أو نظرها، ليس أمام السكان المحليين وحسب، بل أمام العالم أجمع! وفي حين لن يكون لفرد واحد القدرة التي للصحيفة أو لمحطة ما على جمع الأخبار فإنه أو أنها، قادر، بالنسبة للآراء، على الصراخ بصوت عالٍ لمن يريد أن يستمع. علاوة على ذلك، أنشأ بعض الأفراد خدمات أنباء على الإنترنت تعطي معلومات متخصصة فورية حول السياسة، والطقس، والبورصة، والرياضة، والموضة. فبالإضافة إلى الوسائل المطبوعة والإذاعية، يملك العالم الآن فرعاً جديداً من الصحافة هو خدمة الإنترنت. يمكن للمرء أن يقول، بما يخص حقوق الناس، إنه ليس هناك شيء اسمه تخمة أخبار. فعناوين العديد من الصحف الأميركية تحمل كلمات من الكتاب المقدس، "سوف تعرفون الحقيقة وسوف تجعلكم الحقيقة أحراراً". كان الآباء المؤسسون يعتقدون أن الصحافة الحرة هي حماية ضرورية للفرد ضد الحكومة. كان القاضي برانديز يرى أن الصحافة الحرة تقدم المعلومات التي يحتاجها الفرد للقيام بواجبات المواطنية. والأرجح انه ما من مجال آخر تتغير فيه طبيعة حق ما بالسرعة التي يتغير فيه خلال جمع ونشر المعلومات على يد الصحافة، لكن المهمة تبقى هي نفسها. فالفقرة الخاصة بالصحافة في التعديل الأول للدستور لا تزال تشكل متراساً بنيوياً للديمقراطية وللناس. قراءات إضافية Fred W. Friendly, Minnesota Rag (New York: Random House, 1981). Elizabeth Blanks Hindman, Rights & Responsibilities: The Supreme Court and the Media (Westport: Greenwood Press, 1997). Anthony Lewis, Make No Law: The Sullivan Case and the First Amendment (New York: Random House, 1991). Lucas A. Powe, Jr., The Fourth Estate and the Constitution: Freedom of the Press in America (Berkeley: University of California Press, 1991). Bernard Schwartz, Freedom of the Press (New York: Facts on File, 1992).
تاريخ النشر:
08 تموز/يوليو 2004 آخر تحديث:
|