حقوق الأفراد: الحرية الفردية ووثيقة الحقوق

الفصل الثالث: حـــريـــة التعبيـــر

لا يجوز أن يَسِنّ الكونغرس أي قانون... يحدّ من حرية التعبير...
- التعديل الأول للدستور الأميركي

إن كان هناك حق يعتبر أثمن من كل الحقوق الأخرى في المجتمع الديمقراطي، فهو حق حرية التعبير. ان القدرة على قول ما يفكر به الإنسان، وتحدّي الآراء السياسية السائدة في زمنٍ ما، وانتقاد سياسات الحكومة دون خوف من توجيه اتهام من الدولة، هو الفارق الأساسي بين العيش في بلد حر والعيش في بلد دكتاتوري. فمن بين جميع مجالات حقوق الناس، كتب قاضي المحكمة العليا بنجامين كاردوزو الذي خدم في المحكمة بين سنة 1932 وسنة 1938، قائلاً عن التعبير الحر انه "الأساس... الشرط الذي لا غنى عنه لكل حرية أخرى تقريباً."

فإذا كان الأميركيون يفترضون أن التعبير الحر هو القيمة الجوهرية للديمقراطية، فإنهم مع هذا يختلفون حول المدى الذي يحمي فيه التعديل الأول الأنواع المختلفة للتعبير. هل يحمي، مثلاً، لغة الكراهية الموجّهة إلى مجموعات إثنية أو دينية مُعيّنة؟ هل يحمي "الكلمات المحفزة على القتال" التي تحفّض الناس مباشرة على العنف؟ هل يُغطيّ التعديل الأول المواد الفاحشة تحت مظّلته؟ هل الخطاب التجاري -- المواد الإعلانية أو مواد العلاقات العامة التي تصدرها الشركات -- يستحق الحماية الدستورية؟ خلال العقود العديدة الأخيرة، شكلّت هذه الأسئلة جزءاً من نقاش جار، داخل الحكومة وفي النقاش العام، ولم يتّم التوصل حتى الآن، إلى إجماع في العديد من المجالات. لكن ذلك غير مُستغرب وغير مُقلق. فالحرية مفهوم يتطّور، وطالما سنواجه أفكاراً جديدة، فإن الجدال العظيم سوف يستمر. وظهور الإنترنت هو الأحدث بين سلسلة من التحديات بالنسبة لفهم ما تعنيه حماية حرية التعبير في التعديل الأول للدستور في المجتمع المعاصر.


لم تتخذ حرية التعبير دائماً شكل الحق الشامل الذي نعرفه اليوم. عندما كتب السّير وليام بلاكستون كتابه الشهير، شروحات حول قوانين إنكلترا، في منتصف القرن الثامن عشر، عرّف حرية التعبير على أنها غياب التقييد المُسبق. كان يقصد بذلك أنه لا يجوز ان تمنع الحكومة أحداً ما من قول أو نشر ما يعتقده، لكن متى تلفّظ شخص ما بملاحظاته، يصبح عندئذ بالإمكان معاقبته إذا كان نوع الخطاب محظوراً. لقد وضع الإنكليز، على غرار الإغريق القدماء، قيوداً قانونية على ثلاثة أنواع من الخطاب: التحريض على الفتنة (انتقاد الحكومة)، الافتراء (انتقاد الأفراد)، والتجديف (انتقاد الدين)، وسمّوا كل نوع منها "مواد جنحية". ان أهم قيد من القيود الثلاثة بالنسبة للحريات السياسية هو التحريض، لأن النُخب الحاكمة في زمن بلاكستون كانت تعتقد ان أي انتقاد يُوجّه إلى الحكومة أو إلى الرسميين فيها، حتى ولو كان صحيحاً، يُخّرب النظام العام بتقويضه الثقة بالحكومة. فإذا كان لا يحق للحكومة، حسب بلاكستون، ان تمنع شخصاً ما من انتقاد الحكومة، فإن بإمكانها معاقبته بعد ان يفعل ذلك.

خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، رفع التاج البريطاني مئات الدعاوى بخصوص قضايا متعلقة بالتحريض، وكثيراً ما فرض عقوبات قاسية جداً. عندما أعلن وليام توين ان للناس الحق في العصيان على الحكومة، أُوقف وأُدين بجرم التحريض، و"بالتفكير بقتل الملك". حكمت المحكمة عليه بالإعدام شنقاً وبأن يُخصى، وتُنزع أحشاؤه، ويُقطّع إلى أرباع، ثم يُقطّع رأسه. إزاء احتمال فرض عقوبات كهذه بعد نشر الرأي، لم يَعُد لغياب التقييد المُسبق معنى يُذكر.

حمل المستوطنون الإنكليز الذين قدموا إلى أميركا الشمالية القانون الإنكليزي معهم، لكن سرعان ما ظهر تعارضٌ بين النظريات والممارسة، وبين القانون كما هو مكتوب وبين القانون كما هو مُطّبق. سنّت مجالس المستعمرات عدداً من القوانين التي تنظم التعبير، لكن يبدو ان لا الحكام الملكيين ولا المحاكم المحلية حاولت فرضها بأي درجة من الشدة. أكثر من ذلك، وعلى أثر قضية جون بيتر زنغر الشهيرة (التي سوف تناقش في الفصل الخاص "بحرية الصحافة")، أرسى المستعمرون مفهوم "الحقيقة" ذاتها كدفاع ضد تهمة التحريض. كان لا يزال بالإمكان مقاضاة شخص ما إذا انتقد الحكومة أو الرسميين فيها، لكن أصبح الآن بإمكان المدعى عليه أن يقدم أدّلة عن حقيقة بياناته، بحيث يعود إلى هيئة المحلفين أمر تحديد صحتها.

منذ الوقت الذي صادقت فيه الولايات على التعديل الأول سنة 1791 (لا يجوز أن يسّن الكونغرس أي قانون... يحّد من حرية التعبير أو الصحافة...) ، ولغاية الحرب العالمية الأولى، سّن الكونغرس قانوناً واحداً يحدّ من حرية التعبير، وهو قانون التحريض على الفتنة، سنة 1798. كان هذا التشريع قد أُعدّ بشكل خاطئ ووُلد من شبه حرب مع فرنسا، وقد انتهى أجله بعد ثلاث سنوات من إقراره. ومع أن هذا القانون قد شُجب على نطاق واسع وبالشكل المناسب، من الجدير ذكره انه كان يحتوي على الحقيقة كوسيلة للدفاع. خلال الحرب الأهلية الأميركية بين سنة 1861-1865، كان هناك عدد قليل أيضاً من التعديلات التنظيمية الثانوية الخاصة بالتحريض، لكن النقاش الحقيقي حول معنى الفقرة الخاصة بالتعبير في التعديل الأول لم يبدأ إلا مع قانون التجسّس سنة 1917، وقانون التحريض سنة 1918. كان هذا النقاش عاماً وشارك فيه الشعب الأميركي، والكونغرس، والرئيس، وقد جرى البت بأمره، وقبل كل شيء، في المحاكم.

برزت أولى القضايا التي وصلت إلى المحكمة العليا نتيجة للإجراءات المُتخّذة أيام الحرب التي كانت تستهدف أعمال الإعاقة للقوات العسكرية إضافةً إلى انتقاد الحكومة، وقد وافقت المحكمة عليها في بداية الأمر. فكأنما القضاة كانوا يقولون إنه في الوقت الذي تبقى فيه حرية التعبير القاعدة، إلا أنها ليست مطلقة، وأن التعبير، في أوقات معيّنة -- وخصوصاً في زمن الحرب -- يمكن الحدّ من حريته في سبيل الصالح العام.

القاضي أوليفر وندل هولمز جونيور،
في قضية شنك ضد الولايات المتحدة
1919

نقرّ بأن قول المُدّعى عليهم إن كل ما قيل في النشرة، في أماكن عدة منها، وفي الأوقات العادية، كان يمكن أن يكون ضمن حقوقهم الدستورية. لكن صفة كل عمل تتوقف على الظروف التي يتم فيها. فحتى أكثر الحمايات لحرية التعبير صرامة لن تحمي إنساناً يصرخ بوجود حريق لا وجود له في مسرح ويحدث فيه ذعراً. فالسؤال في كل قضية هو ما إذا كانت الكلمات المستخدمة قد استخدمت في ظروف، أو أنها ذات طبيعة، تُشكّل "خطراً واضحاً وداهماً" وتسبب شرور جوهرية يحق للكونغرس منع حدوثها. المسألة تتعلق بتقاربها ودرجة خطرها. فعندما تكون دولة ما في زمن حرب، فإن العديد من الأشياء التي كان يمكن قولها في أوقات السلم يصبح التلفظ بها عائقاً لجهودها الحربية ولا يجوز قبولها طالما الرجال يقاتلون، بحيث لا تعود تنظر إليها أية محكمة على أنها محمّية بموجب أي حق دستوري.


ويبدو انه كان لمعيار هولمز حول "الخطر الواضح والداهم" مغزى كبير. نعم، يجب أن يكون التعبير حراً، لكن حريته ليست مطلقة؛ فالحاجة الواضحة لمعاقبة إنسان يصرخ كلمة "نار" في مسرح مزدحم، وكذلك الأمر بالنسبة لمتطلبات الحرب، تجعل من الضروري، في بعض الأوقات، الحدّ من حرية التعبير. ان معيار "الخطر الواضح والداهم" جرى استخدامه بطريقة أو بأخرى من قبل المحاكم طيلة 50 سنة تقريباً، وهو يبدو كمعيار مباشر وسهل الاستعمال لتحديد أين يتم تخطّي حدود حرية التعبير. غير أنه كانت هناك منذ البداية مشاكل ترافق هذا المعيار، كما ان تقاليد التعبير الحر في الولايات المتحدة كانت قوية لدرجة أن النقاد تحدّوا الحملة الحكومية ضد معارضي الحرب كما انتقدوا موافقة المحكمة عليها.

ان أحد أعظم الأصوات في تاريخ التعبير الحر يعود لأستاذ حقوق دمث من جامعة هارفرد، يدعى زكريا تشافي جونيور، سليل عائلة ثرية ومرموقة اجتماعياً، دافع طيلة حياته عن حق جميع الناس في قول ما يؤمنون به دون خوف من انتقام الحكومة. فقد اقترح ما قد يبدو للعديد من الناس آنذاك، والآن، انه فكرة راديكالية تقول ان التعبير الحر يجب أن يظل حراً حتى في أوقات الحرب، وحتى عندما تكون المشاعر متأججة، لأن هذا هو الوقت الذي يحتاج فيه الناس لسماع حجج الجانبين، حتى لا يقتصر الخطاب العام على ما ترغب الحكومة في أن تقوله للناس.


زكريا تشافي جونيور،
حول حرية التعبير
1920

كما أنه لا يمكننا التغاضي عن حرية التعبير بالقول ان الوقت هو وقت حرب، وإن الدستور يُعطي الكونغرس سلطة صريحة لتعبئة الجيوش. فقد صاغ التعديل الأول للدستور رجال كانوا خارجين من حرب. فإذا كان لهذا التعديل من معنى، فإن عليه أن يحدّ من السلطات التي أعطيت بجلاء للكونغرس طالما انه ليس للكونغرس سلطات سواها، ويجب أن تُطبّق على تلك النشاطات الحكومية التي يمكن أن تؤدي أكثر إلى التعرض لحرية النقاش، أي الخدمات البريدية وإدارة الحرب.

يبدو أن المعنى الحقيقي لحرية التعبير هو هذا. ان أحد أهم أهداف المجتمع والحكومة هو اكتشاف ونشر الحقيقة حول المواضيع ذات الاهتمام العام. وهذا لا يمكن تحقيقه إلاً من خلال إزالة أي حدود للنقاش مطلقاً، ذلك أنه... متى استُخدمت القوة مع الحجة، تصبح المسألة مسألة حظ بالنسبة لإمكانية استخدامها في الجانب الخاطئ أم الصحيح، وحينها تخسر الحقيقة كل الأفضلية الطبيعية التي لها في هذا التنافس. غير ان هناك أهدافا أخرى للحكومة مثل الحفاظ على النظام، وتدريب الشباب، والحماية ضد العدوان الخارجي. يُعرقل النقاش غير المحدود أحياناً تلك الأهداف التي من اللازم الموازنة بينها وبين حرية التعبير، لكن هذه الأخيرة تستحق أن يكون لها وزن كبير في هذا الميزان. يوفّر التعديل الأول قوة مُلزمة لمبدأ الحكمة السياسية هذا.

وعليه، يجب أن يكون التعبير حّراً في أوقات الحرب، إلا إذا كان مسؤولاً بوضوح عن التسّبب في عرقلة مباشرة وخطيرة لإدارة الحرب.

طَرَحَ تشافي هذه الحجة سابقاً في مقالات كتبها، وعلى أثر قرار هولمز في قضية شنك، اجتمع مع المشترع وأقنعه أنه كان مخطئاً. وعندما وردت قضية تحريض أخرى أمام المحكمة في نهاية تلك السنة، استخدمت الأكثرية معيار "الخطر الواضح والداهم" لتقرير إدانة المدعى عليهم بجرم التحريض. إلاّ انه كان من المفاجئ ان صاحب هذا المعيار بذاته، إضافةً إلى زميله القاضي لويس د. براندايز، مع زملائه الذين انضموا إليه، دخلوا في جدل مخالف للمعيار.

القاضي أوليفر وندل هولمز جونيور
مخالفاً في قضية أبرامز ضد الولايات المتحدة
1919

ان الاضطهاد بسبب التعبير عن الآراء يبدو لي منطقياً تماماً. فلو لم يكن لديك أي شك حول أفكارك أو سلطتك، وإذا كنت تريد من صميم قلبك التوصّل إلى هدف ما، فيمكنك الإعراب عن رغباتك ضمن القانون، بحيث تزيل أي معارضة. فالسماح بالمعارضة بواسطة الخطاب قد يشير إلى أنك تعتبر الخطاب عاجزاً، كحال الرجل الذي يقول إنه ربّع الدائرة، أو كأنك لا تهتم من صميم فؤادك بالنتيجة، أو كأنك لا تثق إما بسلطتك أو بمبادئ بيانك. وعندما يدرك الناس أن الزمن خيّب آمال العديد من المعتقدات القتالية، ربما يصبحون ميالين إلى الاعتقاد، أكثر مما كانوا يؤمنون قبلاً، بالأسس التي يقوم عليها سلوكهم بالذات بأن الأمر الصالح المطلق يمكن بلوغه بصورة أفضل عن طريق التبادل الحر للأفكار، وأن أفضل معيار للحقيقة هو قوة الفكر الذي يتمكن من جعل نفسه مقبولاً في منافسة ميدان السوق الحر، وإن الحقيقة هي الأساس الوحيد الذي يمكن عن طريقها تحقيق رغباتهم بسلام. تلك هي، في أية حال، نظرية دستورنا. إنها تجربة كما أن الحياة كلها تجربة. ففي كل سنة، ان لم يكن في كل يوم، علينا أن نراهن على خلاصنا استناداً إلى نبوءة ما لا تقوم على معرفة كاملة. واعتقد، في الوقت الذي تشكل فيه هذه التجربة جزءاً من نظامنا، أن علينا أن نكون يقظين بصورة دائمة ضد محاولات الحدّ من التعبير عن الآراء التي نكرهها ونعتقد أنها تهدد بالموت، إلاّ إذا كانت تشكل تهديداً داهماً بالتدخل الفوري بالأهداف المشروعة والمُلّحة للقانون بحيث تشير إلى ان هناك حاجة فورية لمنعها لإنقاذ البلاد. أنا لا أوافق أبداً على حجة الحكومة بأن التعديل الأول ترك القانون العام نافذاً في ما يخص جرم التحريض. ويبدو لي أن التاريخ يعارض هذه النظرية. كنت قد تصوّرت أن الولايات المتحدة، لسنوات عديدة خلت، عبّرت عن توبتها عن خطأها لصدور قانون التحريض عام 1798، وذلك بإعادة دفع الغرامات التي كانت قد فرضتها بموجبه. فما من مُبرّر لأجراء أي استثناء للقاعدة العامة المطلقة القائلة، "لا يجوز أن يسنّ الكونغرس أي قانون... يحدّ من حرية التعبير"، إلا في الحالات الطارئة التي تجعل من الخطر الداهم ترك تصحيح الخطابات الشريرة إلى عامل الزمن فقط. طبعاً، أنا أتكلم فقط عن التعبير عن الآراء والحضّ، اللذين شكّلا كل ما ذُكر في هذه القضية، لكنني أعتذر لعدم استطاعتي الإعراب بكلمات أكثر بلاغة عن قناعتي بأن المُدّعى عليهم الذين أدينوا بموجب الاتهام، حُرموا من حقوقهم التي ينص عليها دستور الولايات المتحدة.

معارضة هولمز في قضية أبرامز كان يُنظر إليها غالباً كبداية لاهتمام المحكمة العليا بالتعبير بصفته الحق الأساسي في المجتمع الديمقراطي، كما أنها قدّمت فكرة الديمقراطية على أنها ترتكز إلى ميدان سوق للأفكار الحرة. قد تفتقر بعض الأفكار إلى الشعبية، وقد يكون بعضها مدعاة للاضطراب، وقد يكون بعضها مُزيفاً. لكن على المرء في الديمقراطيات، أن يعطي كل هذه الأفكار فرصة متساوية لكي تُسمع، إيماناً منا بأن الأفكار الخاطئة، والحقيرة، وغير المفيدة، سوف تطردها الأفكار الصائبة، الأفكار التي ستسّهل التقدم بطريقة ديمقراطية. ولا يزال تشبيه ميدان سوق الأفكار الذي أعطاه هولمز يحظى بإعجاب العديد من الناس بسبب تأييده للحرية الفكرية.

نظرية "ميدان سوق الأفكار" لها صلة أيضاً بإحدى أسس الديمقراطية، أي حق الشعب في اتخاذ القرارات. فقبل قرنين من الزمن، أقام توماس جفرسون إيمانه بالديمقراطية على حسن حكم الناس في أن يختاروا لأنفسهم ما يعتقدون أنه الشيء الصالح الذي ينبغي القيام به. فعلى الشعب وليس على حكّامه، اتخاذ القرار بالنسبة للقضايا الكبرى القائمة عبر مناقشات حرة تليها انتخابات حرة. فإذا مُنعت مجموعة ما من الإعراب عن أفكارها لأن تلك الأفكار مزعجة، فإن الجمهور ككل سيحرم من سلسلة كاملة من الوقائع والنظريات التي يحتاج إلى أخذها في الاعتبار لكي يتوصل إلى أفضل النتائج.

فلا هولمز ولا أحد سواه قال إنه لا حدود للتعبير؛ على العكس، وكما سنرى بعد قليل، دار معظم النقاش خلال العقود المتعدّدة الأخيرة حول كيفية رسم الحدود بين الخطاب المحمي والخطاب غير المحمي. وكان في صميم النقاش السؤال التالي، "لماذا علينا أن نمدّ مظلة الحماية الدستورية لتشمل هذا النوع من الخطاب؟" فالمجال الوحيد الذي حظي بإجماع عام انه أيا تكن المجالات الأخرى التي يغطّيها بند التعبير في التعديل الأول، فإنه يحمي الخطاب السياسي. وهو يفعل ذلك، كما فهم ذلك جفرسون وماديسون جيداً، لأنه بدون خطاب سياسي حر لن يوجد مجتمع ديمقراطي. ان الأساس المنطقي لوجهة النظر هذه، والذي يبقى كأكبر تفسير لحرية التعبير في تاريخ أميركا، هو الرأي الذي أدلى به لويس د. برانديز في قضية تتعلق بقانون ولاية يخص جريمة التحريض.

لقد أيدت أكثرية أعضاء المحكمة، استناداً إلى معيار الخطر الواضح والداهم، قانون ولاية كاليفورنيا الخاص بجريمة التحريض واعتبرته دستورياً، لأن للولاية، كما قالت المحكمة، سلطة معاقبة الذين يُسيئون استخدام حقهّم في التعبير الحر "بأقوال مسيئة للصالح العام، وتميل للتحريض على الجريمة، وتعكّر السلام العام، أو تعرض للخطر أُسس الحكومة المنظمة وتُهدّد بقلبها". لم يوافق برانديز، ومعه هولمز، ورسم برانديز الحدود التي تربط التعديل الأول بالديمقراطية السياسية، وجعل منها، في الواقع، كما كتب كاردوزو لاحقاً، "الشرط الذي لا غنى عنه" للحريات الأخرى.

القاضي لويس د. برانديز
في قضية ويتني ضد كاليفورنيا
1927

علينا، للتوصل إلى استنتاجات سليمة حول هذه الأمور، ان نتذكر لماذا تُحرم ولاية ما، في العادة، من حق حظر نشر أي عقيدة اجتماعية، أو اقتصادية، أو سياسية التي تعتقدها أكثرية واسعة من مواطنيها أنها خاطئة وتهدد بعواقب مشؤومة.

كان الذين حققوا استقلالنا يؤمنون بأن الغاية النهائية للدولة هي جعل الناس أحراراً في تنمية قدراتهم، وأنه يجب أن تنتصر القوى التشاورية في حكومتها على الاعتباطية. اعتبروا أن الحرية هي غاية ووسيلة. آمنوا أن الحرية هي سّر السعادة وأن الشجاعة هي سّر الحرية. آمنوا أن حرية التفكير كما تشاء والتحدث كما تفكر وسائل لا غنى عنها لاكتشاف ونشر الحقيقة السياسية؛ وانه بدون التعبير والاجتماع الحر، تكون المناقشات غير ذات جدوى؛ وانه بوجود تلك الحرية، تحظى المناقشات عادة بالحماية اللازمة ضد انتشار العقائد الهدامة؛ وأن أكبر تهديد للحرية هو الشعب الخامد؛ وأن النقاش العام هو واجب سياسي؛ وأن هذا يجب أن يكون المبدأ الأساسي للحكومة الأميركية. لقد أدركوا المخاطر التي تتعرض لها جميع المؤسسات البشرية. لكنهم كانوا يعلمون أنه لا يمكن ضمان الأمن والنظام فقط من خلال خوف من يخالفونه من العقاب. وأنه من قبيل المخاطرة تثبيط هِمّة الفكر والأمل والخيال؛ وأن الخوف يُولّد الاضطهاد، وأن الاضطهاد يُولّد الكراهية؛ وأن الكراهية تُهدّد الحكومة المستقرة؛ وأن سبيل السلامة يَكمن في فرص المناقشة الحرة للشكاوى المفترضة والعلاجات المقترحة؛ وأن العلاج المناسب للنصائح الشريرة هو النصائح الجيدة. فقد تحاشوا السكوت الذي يفرضه القانون بالقوة انطلاقاً من إيمانهم بقوة المنطق الذي يُطبق في النقاش العام، والذي هو حجة القوة في أبشع أشكالها. وإدراكاً منهم للاستبداد الذي تمارسه الأكثريات الحاكمة في بعض الأحيان، عدّلوا الدستور لضمان التعبير والتجمّع الحر للجميع.

إن الخوف من الأذى الشديد لا يمكنه أن يُبرّر وحده إلغاء حرية التعبير والتجمع. فقد خشي الناس الساحرات وأحرقوا النساء. ووظيفة التعبير تحرير الناس من قيود المخاوف غير المنطقية. فإلغاء حرية التعبير يستوجب أسساً منطقية للتخوف من حصول عواقب مشؤومة إذا مورست حرية التعبير. ويجب أن تكون هناك خلفية منطقية للاعتقاد بأن الخطر المثير للخوف وشيك الحدوث، كما وجود أساس منطقي للاعتقاد بأن الأذى الذي يجب تجنبّه هو خطر جدّي...

الذين كسبوا استقلالنا عن طريق الثورة لم يكونوا جبناء. لم يخافوا التغيير السياسي ولم يمجّدوا الأمن والنظام على حساب الحرية. فبالنسبة لرجال شجعان، يعتمدون على أنفسهم، واثقين من قوة التعبير الحر والتفكير المنطقي المتحرر من الخوف، المُطبّق من خلال عملية الحكومة الشعبية، لا يمكن اعتبار أي خطر ناجم عن حرية التعبير خطراً واضحاً وداهماً ما لم يكن حدوث الأذى المُسبّب للخوف وشيكاً بحيث يحصل قبل وجود فرصة للمناقشة الكاملة. فإذا كان هناك وقت لعرض الأخطاء والأكاذيب من خلال النقاش، ولتجنّب الأذى عن طريق عملية التعليم، فإن العلاج الواجب اعتماده هو المزيد من التعبير الحر وليس السكوت المفروض بالقوة. حالات الطوارئ وحدها يمكن أن تبرّر القمع. وهكذا يجب أن تكون القاعدة إذا أُريد للسلطة أن تتوافق مع الحرية. هذه هي، في رأيي، وصية الدستور. لذا فإن الباب مُشّرع دائماً أمام الأميركيين لتحدي أي قانون يحدّ من حرية التعبير والتجمع بإظهارهم أنه لم يكن هناك حالات طارئة تبرر تقييد هذه الحرية.

ان أهم دور للديمقراطية، في رأي برانديز، هو دور "المواطن"، وإن على المرء، من أجل القيام بمسؤوليات هذا الدور، المساهمة في النقاش العام حول القضايا الهامة. ولا يمكن القيام بذلك إذا كان هو أو هي يخاف من التحدث وقول أشياء غير شعبية؛ ولا يستطيع المرء تقييم جميع الخيارات ما لم يكن للآخرين من أصحاب وجهات النظر المخالفة، حرية التعبير عن معتقداتهم. لذلك، فإن التعبير الحر يوجد في صميم العملية الديمقراطية.

تبدو هذه الحقيقة بديهية لدرجة ان المرء قد يستغرب لماذا لا تحظى بالقبول عالمياً وحتى في الولايات المتحدة؛ ليس من الصعب العثور على الأسباب. ان الدفاع عن أفكار لا تلقى شعبية يتطلب شجاعة مدنية، فالأكثرية كما أشار كل من هولمز وبرانديز، نادراً ما تريد سماع أفكار تتحدى وجهات النظر السائدة. ان منع الأكثرية من إسكات أولئك الذين يعارضونها هو السبب الذي دفع المؤسسين إلى كتابة التعديل الأول. فمبدأ الفكر الحر، كما كتب هولمز في رأيه المشهور، "ليس الفكر الحر لمن يشاركوننا الرأي بل الحرية للفكر الذي نكره."

ليس هذا مفهوم سهل، وكثيراً ما يكون من الصعب، في أزمنة التوّتر مثل الحرب، السماح للذين يهاجمون أسس الديمقراطية باستعمال الأدوات الديمقراطية في هجماتهم. من المؤكد ان الدروس التي حاول هولمز وبرانديز تعليمها بدت وكأنها ضاعت خلال أولى سنوات الحرب الباردة. ففي الأربعينات من القرن الماضي، قاضت الحكومة قادة الحزب الشيوعي الأميركي لأنهم دعوا إلى قلب الحكومة بالقوة ولأنهم تآمروا لنشر هذه العقيدة. ويظهر أن أكثرية المحكمة العليا الأميركية التي كان يبدو، منذ العشرينات من القرن الماضي، ان حمايتها للتعبير الوارد في التعديل الأول للدستور تزداد، قد غيّرت موقفها. فمع إقرارها بأن الشيوعيين الأميركيين لا يشكلون خطراً واضحاً وحالياً ذا شأن، اعتبرت المحكمة أن أقوالهم كانت تمثّل "اتجاهاً سيئاً" يمكن أن يصبح هداماً بالنسبة لأمن النظام الاجتماعي.

وكما قام هولمز وبرانديز بالدفاع عن الاشتراكيين الذين كانوا دون شعبية قبل جيل من الزمن، قام هيوغو بلاك ووليام أ. دوغلاس مقامهم كمدافعين عن حرية التعبير وكحماة لحقوق الأقليات.

القاضي وليام أ. دوغلاس،
مخالفاً في قضية دنيس ضد الولايات المتحدة
1951

ثمة وقت يفقد فيه حتى حق التعبير حصانته الدستورية. فالكلام الحميد في يوم ما قد يشكل في وقت آخر نيرانا يجب إخمادها لصالح سلامة الجمهورية. هذا هو معنى معيار الخطر الواضح والداهم، فعندما تكون الظروف خطيرة لدرجة لا يكون هناك من وقت لتجنّب الأذى الذي يُهدّد فيه التعبير الحر، يحين الوقت للدعوة إلى التوقّف، وإلا فإن التعبير الحر الذي هو أساس قوة هذه الدولة سيكون سبب دمارها. رغم هذا يبقى التعبير الحر القاعدة وليس الاستثناء. فالقيود تحتاج، لكي تكون دستورية، لأن تستند إلى أكثر من الخوف، إلى أكثر من معارضة مجموعة ضد الخطاب الحر، إلى أكثر من الاشمئزاز بالنسبة لمضمونه. فمن الضروري أن يكون هناك أذى مباشر ما يهدّد المجتمع إذا كان التعبير مسموحاً...

كان [الشيوعيون] في أميركا تجّار بؤساء لأفكار مرفوضة؛ ولا زالت بضاعتهم كاسدة. فلو شئنا التحرك على أساس الأدلة القضائية، فمن غير الممكن بالنسبة لي أن أقول إن الشيوعيين في هذا البلد أقوياء أو منتشرون إستراتيجياً لدرجة يجب معها حظر نشاطهم بسبب خطابهم. هذه هي وجهة نظري إذا كان علينا أن نعمل على أساس الأدلة القضائية. لكن مجرد البيان عن وجهات نظر معارضة كان يشير إلى مدى أهمية معرفتنا للوقائع قبل أن نُقدم على أي عمل. فلا التحيّز، ولا الكراهية، ولا الخوف غير العقلاني يجب أن يكون أساس هذا العمل الرسمي. لا يجوز التضحية بالتعبير الحر لأي سبب أقل من دليل صريح وموضوعي بان الشر الذي تتم الدعوة له أصبح وشيكاً.

بعد أن مرت هستيريا الحرب الباردة، توصّل الأميركيون إلى رؤية الحكمة في الحجج التي قدّمها هولمز وبرانديز، ولاحقاً بلاك ودوغلاس. فعلاج الخطاب "السيئ" لا يكمن في القمع بل بالخطاب "الجيد"، أي مجابهة مجموعة الأفكار بمجموعة أفكار أخرى. والحقيقة، أن العديد من الأشياء التي تعتبر صائبة وصحيحة في عالم اليوم كانت تعتبر في يوم من الأيام هرطقية، مثل إلغاء الرّق أو حق المرأة في الاقتراع. فعلى الرغم من أن الأكثرية ستجد نفسها دائماً غير مرتاحة إزاء الأفكار المتطرفة (الراديكالية) التي تهاجم معتقداتها العزيزة عليها، إلاّ بالنسبة للقانون الدستوري، تقوم سياسة الديمقراطية الأميركية على وجوب حماية التعبير الحر بغض النظر عن درجة عدم شعبيته. وفي سنة 1969، وضعت المحكمة أخيراً حداً نهائياً لكامل فكرة تهمة التحريض على الفتنة، والقائلة بأنه يمكن مقاضاة الذين يدافعون عن أفكار تشجبها الأكثرية لأنهم هدامون.


خلال أوج الاحتجاج على التورّط الأميركي في فيتنام، تساءل العديد من المدافعين عن الحريات المدنية، إذا كان اشتراك الولايات المتحدة في الحرب سيُفلت العقال، مرة أخرى، لقوى القمع كما حصل خلال الحرب العالمية الأولى والحرب الباردة. لكن فوجئ الكثيرون ممن كانوا يخشون الأسوأ عندما رأوا البلاد تستوعب الاحتجاجات بهدوء. لا يعني هذا ان جميع الأميركيين أعجبهم ما كان يقوله المحتجّون، أو أنهم لم يرغبوا في إسكات أو حتى حبس هؤلاء. بدلاً من ذلك، قبلوا النظرية القائلة ان للناس في الديمقراطية الحق في الاحتجاج، وبصوت عالٍ، وبطريقة فظة في بعض الحالات، لكن يجب، عبر النقاش العظيم الذي دار حول ما إذا كان يجب أن تتواجد الولايات المتحدة في جنوب شرق آسيا، الاستماع إلى كل الأصوات.

حملت ماري بث تِنكر، البالغة الثالثة عشر من العمر، وطالبات أخرى شرائط على ذراعها إلى الكلية، في ديموين بولاية أيوا كرمز لمعارضتهن الحرب في فيتنام فأوقفتهن سلطات المدرسة على أساس ان عملهن يعرقل العملية الدراسية. الواقع أن أية عرقلة لم تحصل، لكن الرسميين في المدرسة خافوا من ردة فعل المدينة إذا ما ظهر أنهم سمحوا بقيام احتجاجات ضد الحرب في المدرسة.

وفي إحدى أهم القضايا التي برزت من جراء الحرب، قررت المحكمة العليا أنه عندما يتعلق الأمر بالتعبير السياسي، لا يفقد تلامذة المدرسة حقوقهم الدستورية عندما يجتازون باب المدرسة. بل على العكس، فإذا كانت المدارس الميدان الصالح لتدريب التلامذة على المواطنية، فمن الضروري أن تتوفر لهم الفرصة في معرفة أن لهم أيضاً حق التعبير عن وجهات نظر سياسية غير شعبية دون معاقبتهم على يد سلطات المدرسة.

ماري بث تِنكر

كنا مجموعة من المراهقين لنا نشاطاتنا... وقد قررنا وضع هذه الربطات على الأذرع إلى المدرسة. كانت الحركة ضد الحرب في فيتنام آنذاك [1965] بدأت تنمو. لم تكن شبيهة بما سوف تصبح لاحقاً، لكن كان هناك عدد لا بأس به من الناس منخرطين في الحركة على نطاق الوطن. وأتذكر أن ذلك كان مثيراً جداً؛ فقد كان معظم الناس ينضمون إلى تلك الفكرة العظيمة. كنت فتاة صغيرة لكنني كنت قادرة أن أكون جزءاً منها وأن يكون لي دور. لم يكن ذلك شأن البالغين وحسب، وكان الأحداث يحظون بالاحترام أيضاً: فعندما كان لدينا ما نقوله، كانت الناس يصغون إلينا.

وهكذا قرّرنا هذا الشيء الصغير وهو حمل ربطات الذراع إلى المدرسة. كانت الأمور تتحرك قُدماً ولم نكن نفكر أنه سيكون للأمر أهمية كبرى. لم تكن لدينا أي فكرة عن أنه سيكون ذلك الحدث الكبير لأنه سبق لنا ان نظّمنا مظاهرات صغيرة أخرى دون أن ينجم عنها شيء يذكر...

عشية اليوم الذي كنا سنحمل فيه ربطات الذراع، ذكر الموضوع بطريقة ما خلال درس الجبر. غضب المعلم وقال إنه إذا حمل أحد ما في هذا الفصل الدراسي رباط الذراع إلى المدرسة، فإنه سيطرده من فصله. وعلمنا لاحقاً أن مجلس المدرسة كان قد اتخّذ هذا الموقف ضد حمل ربطات الذراع... فكل طالب كان يلبس ربطة الذراع كان سيوقف عن متابعة الدراسة.

ذهبت في اليوم التالي إلى المدرسة ولبست ربطة الذراع طيلة الصباح. كان الفتيان لطفاء في حديثهم، وكان كل شيء ودّي دون أي عدائية. لاحقاً، دخلت إلى درس الجبر، بعد الغداء مباشرة، وجلست. دخل الأستاذ وكان الجميع يتهامسون؛ لم يكن أحد يعرف ماذا سيحدث. ثم أتى شخص إلى الباب وقال، ماري تِنكر، أنتِ مطلوبة إلى القاعة الخارجية، ثم دعوني للذهاب إلى مكتب المدير ...

كان المدير غير ودّي فعلاً. بعدها فصلوني من المدرسة.

[أعيد نشره بإذن من مؤسسة "فري بريس"، قسم من مجموعة النشر سايمون آند شوستر للنشر، مقتطفة من كتاب "شجاعة قناعاتهم" بقلم بيتر آيرونز، حقوق الطبع محفوظة 1988 لبيتر آيرونز.]

بعد سنوات، قام المعارضون للسياسة الخارجية لحكومة أميركية مختلفة بإحراق العلم الأميركي احتجاجاً وجرى توقيفهم على الفور. تابع هؤلاء دفاعهم القانوني في تلك القضية وصولاً إلى المحكمة العليا التي اعتبرت أن عملهم، رغم كونه مُستنكراً من جانب معظم الأميركيين، يُمثّل رغم ذلك "تعبيراً سياسياً رمزياً" وأنه يحظى بهذه الصفة بحماية التعديل الأول. ولعل أكثر ما يدعو إلى الاهتمام في تلك القضية، كان رأي أنطوني كينيدي، القاضي المحافظ في المحكمة، الذي شرح لماذا كان يعتقد أن على المحكمة أن تطلق سراح الذي أحرق العلم حتى وأن كان هو، مثله مثل ملايين الأميركيين، يجد أن هذا العمل بغيض.

القاضي أنطوني كينيدي
مرافعاً في قضية تكساس ضد جونسون
1989

الواقع الثابت هو أننا نتخّذ أحياناً قرارات لا نحبّذها. نتخذها لأنها صائبة، صائبة بمعنى ان القانون والدستور، كما نراهما، يفرضان النتيجة. ان التزامنا بهذه العملية كبير لدرجة أنه، باستثناء الحالات النادرة، لا نتوقف للإعراب عن استيائنا من النتيجة، ربما لخوفنا من تقويض مبدأ نثمنه يُملي علينا القرار. وهذه واحدة من تلك القضايا النادرة....

رغم ان الرموز كثيراً ما تكون ما نريدها نحن أن تكون، يبقى أن العلم لا يزال يُعبّر عن معتقدات يتشاطرها الأميركيون، كالإيمان بالقانون والسلام، وبتلك الحرية التي تغذي الروح البشرية. القضية هنا اليوم تفرض إدراك الثمن الذي يلزمنا به هذا الإيمان. انه لأمر مؤثر ولكن أساسي ان العلم يقوم بحماية أولئك الذين ينظرون إليه بازدراء.

ومع أن القرار قوبل بالاحتجاج الشعبي الصاخب، فقد هدأت الضجة مع مرور الزمن بعد أن بدأت تُسمع أصوات الحكمة الفطرية، ولم يكن أحد مؤثراً في دفاعه عن التعبير الحر أكثر من جيمس هـ. وورنر، أسير الحرب السابق في فيتنام.

جيمس هـ. وورنر
كتاب إلى صحيفة واشنطن بوست، 11 تموز/يوليو
1989

أثناء نزولي من الطائرة [بعد إطلاق سراحي من الأسر في فيتنام]، نظرت إلى أعلى ورأيت العلم. توقفت عن التنفس والدموع تملأ عيناي، وحيّيته. لم يسبق لي أن أحببت بلدي كما فعلت في تلك اللحظة... ليس بإمكاني المساومة بالنسبة للحرية. من المؤلم جداً أن يرى المرء العلم يحترق، لكنني لا أوافق الذين يريدون معاقبة الذين يحرقون العلم...

أتذكر جلسة استجواب معيّنة [من جانب الفيتناميين الشماليين] عندما عرضوا علي صورة لبعض الأميركيين المحتجين على الحرب بإحراق العلم. "أنظر"، قال الضابط، "الناس في بلدكم يحتجّون على قضيتكم. وهذا يبرهن أنكم على خطأ."

أجبت، "كلا، ان ذلك يُثبت أني على صواب. ففي بلدي لا نخاف من الحرية حتى وإن كانت تعني أن الناس تخالف رأينا". نهض الضابط في لحظة ووجهه أحمر من الغضب. ضرب قبضته على الطاولة وصرخ طالباً مني أن أسكت. وبينما هو في صخبه، استغربت رؤية الألم الممزوج بالخوف في عينيه. لم أنسَ أبداً هذه النظرة كما لم أنسَ السعادة التي شعرت بها في استخدام سلاحه، حرق العلم، ضده...

لسنا بحاجة لتعديل الدستور لأجل معاقبة الذين يحرقون علمنا. إنهم يحرقون العلم لأنهم يكرهون أميركا ولأنهم يخشون الحرية. فأي طريقة أفضل لإيلامهم من فكرة الحرية الثورية؟ أنشروا الحرية ... لا تخافوا الحرية، إنها أفضل سلاح نملكه.

حمل الدرس الذي أعطاه القاضي برانديز قبل 70 سنة ثماره -- أن الجواب على الخطاب السيئ هو مزيد من حرية التعبير، ليستطيع الناس من التعلم والمناقشة والاختيار.


إذا كان الناس يقبلون بوجه عام فكرة الخطاب السياسي غير المُقّيد، فما هو وضع أشكال التعبير الأخرى؟ إذا كان الحظر الوارد في التعديل الأول مطلقاً، كما قال القاضي هيوغو بلاك (الذي ظل قاضياً في المحكمة العليا بين سنة 1937 وسنة 1971)، فهل هذا يعني أن الحكومة لا يمكنها مراقبة أو معاقبة أي شكل من أشكال التعبير؟ أو هل أن بعض أنواع التعبير تبقى خارج غطاء مِظّلة البند المتعلق بالتعبير؟ هل يحق للكاتب أو الفنان أو رجل الأعمال، أو للمتعصب الديني أو المحتج، أو المراسل على الإنترنت، قول أي شيء، مهما كان عدائياً أو مقلقاً، مُدعّياً حماية الدستور؟ ما من أجوبة سهلة عن هذه الأسئلة. فليس هناك إجماع عام كما ما من أحكام نهائية من جانب المحكمة العليا تغطي كافة ميادين التعبير. فكلما تغيرت مشاعر الجمهور، وكلما أصبحت الولايات المتحدة مجتمعاً أكثر تنوعاً وانفتاحاً، وكلما دخلت التكنولوجيا الإلكترونية الجديدة إلى كل مظهر من مظاهر الحياة الأميركية، يبدو معنى التعديل الأول، كما كان في مرات كثيرة في الماضي، مرة أخرى في وضع متغير دائم خاصة في ما يتعلق بالخطاب غير السياسي.

في مطلع الأربعينات من القرن الماضي، أعلنت المحكمة العليا، في عبارات شبه نهائية، ان التعديل الأول لا يُغطّي التعبير البذيء أو التحريضي، والكلمات العدائية، أو التعبير التجاري. وخلال العقود القليلة الماضية، عالجت المحكمة جميع تلك الحالات، وإذا كانت لم تمنح الحماية للجميع، إلا أنها وضعت العديد من نواحي التعبير تحت حماية بند حرية التعبير. لم تسّلم هذه القرارات من الانتقاد، ومن الممكن القول بقيام ارتباك وخلافات في مجال التعليق العام، خلال جهود المحكمة لمعالجة جميع هذه المجالات من التعبير. ومرة أخرى، جرت الأمور كما يجب أن تجري. فالمحكمة العليا لا يمكنها إصدار الأمر الفصل وأن تنتظر من الناس الإطاعة، بكل بساطة. بدلاً من ذلك، كثيراً ما عكست المحكمة العادات الاجتماعية والسياسية المتغيّرة؛ وفي حين كان القضاة يحاولون اكتشاف حقيقة المقاصد الأساسية لواضعي الدستور، كان عليهم أيضاً محاولة تطبيق روح تلك المقاصد على واقع الحياة العصرية. أحياناً، يكون ذلك سهل التحقيق نسبياً، لكن حتى عندما تصدر المحكمة رأياً صعباً وقابلاً للجدل، كما في قضية إحراق العلم، يجب أن يكون هناك بعض المخزون من التفهم العام للأسباب التي جعلت هذا القرار ضرورياً، وكيف انه يتناسب مع النسيج الأوسع للحياة المعاصرة.

المسألة الصعبة بالنسبة للمحكمة وللناس هي أين يرسم المرء الخط الفاصل بين الخطاب المحمي والتعبير غير المحمي. ففي بعض الميادين، مثل الفحش، لم تحظ الجهود الرامية إلى رسم تمييز قانوني على تأييد الجمهور، لأن الفحش في حد ذاته ليس موضوعياً ومن غير السهل تعريفه. فما قد يراه إنسان ما فاحشا قد يبدو، كما لاحظت المحكمة، موضوعاً رومانسياً عاطفياً بالنسبة لإنسان آخر؛ وان ما يُغضب إنساناً ما قد لا يغضب إنساناً آخر. لكن هل هذا هو نوع المواد التي كان المقصود من التعديل الأول حمايتها؟ هل التعبير الفني، خاصة عندما يسير عكس المعايير الجمالية والأدبية القائمة، هو ذلك النوع من التعبير الذي أراد المؤسسون أن يحميه التعديل الأول؟

وكذلك الأمر، جرى نقاش في الولايات المتحدة طيلة أكثر من عقدين من الزمن حول التأثير المُضرّ للمال على العملية الانتخابية. فقد بُذلت جهود كثيرة لمراقبة كيفية جمع وصرف المال للحملات الانتخابية، ولفرض قيود على المبالغ التي يمكن لأي مساهم أن يتبرع بها. لكن المحكمة العليا قررت قبل سنوات ان المال هو، بطريقة ما، تعبير وأنه عندما يستخدم المال لتعزيز التعبير عن أفكار سياسية، لا يمكن السيطرة عليه. ويجد المرء هنا مجالاً آخر لا يتضح فيه الحدّ الذي يمكن للإنسان الأخذ به دفاعاً عن مبدأ التعبير الحر دون الاصطدام بمفاهيم للديمقراطية تحظى بعطف مشابه، مثل الانتخابات النزيهة.

ربما تعود أكثر مهمة مُثبطة تواجه الشعب الأميركي والنظام القضائي في تحديد كيف سيطّبق التعديل الأول على التكنولوجيا الإلكترونية الجديدة. هل شبكة الإنترنت مُجرّد مثال آخر عن ميدان سوق الأفكار الذي أعطاه القاضي هولمز؟ هل إمكانية وصول كل بيت في العالم يوماً ما إلى المواد الموجودة على الشبكة، وإمكانية دخول كل فرد إلى الإنترنت ليقول للعالم أجمع ما يريد هو أو هي، يجعل من التعديل الأول للدستور لا ينطبق على هذا الأمر؟

لا تزال هذه المسائل وغيرها موضع نقاش في الولايات المتحدة -- في المحاكم، والشهادات أمام الكونغرس، واللجان الرئاسية، والجامعات، والندوات العامة، وفي المنازل الخاصة. فليس بين حقوق الناس حق أعزّ من التعبير الحر، وما من حق سواه يستثير هذا القدر من الآراء المتغايرة. غير أن معظم الأميركيين يدركون، كما أشار القاضي برانديز، ان مسؤولياتهم كمواطنين تتطلب أن لا تكون لهم فرصة اقتراح آراء غير محبوبة فحسب بل وأيضاً فرصة الاستماع إلى الآخرين يدافعون عن أفكارهم لتتمكن العملية الديمقراطية من العمل، في نهاية المطاف. وفي الوقت الذي لا يقابل فيه الناس هذه الفكرة بالارتياح دائماً، فإنهم يوافقون على الحقيقة التي أعلنها القاضي هولمز عندما قال إن التعديل الأول موجود ليس لحماية التعبير الذي نوافق عليه بل لحماية التعبير الذي نكره.

قراءات إضافية

Lee C. Bollinger & Geoffrey R. Stone, Eternally Vigilant: Free Speech in the Modern Era (Chicago: University of Chicago Press, 2002).
Zechariah Chafee, Jr., Free Speech in the United States (Cambridge: Harvard University Press, 1941).
Michael Kent Curtis, Free Speech: The People's Darling Privilege (Durham: Duke University Press, 2000).
Harry Kalven, A Worthy Tradition: Freedom of Speech in America (New York: Harper & Row, 1988).
Cass R. Sunstein, Democracy and the Problem of Free Speech (New York: The Free Press, 1993).


تاريخ النشر: 08 تموز/يوليو 2004 آخر تحديث: