حقوق الأفراد: الحرية الفردية ووثيقة الحقوق

الفصل الأول: دور الحرية الدينية

جـــذور الحـــريـــة الدينية
لا يحق للكونغرس أن يسّن أي قانون يتعلق بتأسيس دين للدولة
أو يحظر الممارسة الحرة لأي دين ...
- التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة

الحرية الدينية هي إحدى أكثر ما يُقدره الشعب الأميركي من حريات، الأمر الذي يُدهش بعض الناس من حيث أنه يتناقض مع اعتبار الولايات المتحدة دولة علمانية. غير أن تلك الفقرة بالذات مُضللّة إذ أنها تنطوي بداهة على مجتمع لا وجود فيه للدين أو لمثله العليا، مجتمع تحكم فيه القيم العلمانية وحدها السلوك اليومي. فالدين ليس غائباً عن الحياة اليومية في الولايات المتحدة؛ بل إن الدستور أنشأ نظاماً يتمتع فيه كل فرد وكل مجموعة دينية بكامل حرية العبادة، ولا يكون فيه الفرد حراً من قيود الحكومة فحسب، بل وأيضاً من ضغوطات الطوائف الأخرى. هذا الجمع بين التنوّع الديني والحرية الدينية مسألة معقدة، كما أن المسار بإتجاه هذا المثل الأعلى لم يكن دائماً سهلاً وهو ليس بمنأى عن النزاعات في أيامنا. لكن الديمقراطية عملية متحركة وهي ليست مُنتجاً جاهزاً، كما أن الحرية بمختلف أشكالها هي عملية تطوّر.

ان مفهوم الحرية الدينية مفهوم حديث نسبياً في تاريخ الجنس البشري. فقد كانت هناك مجتمعات سمحت ببعض الإنحراف عن الديانة الرسمية التي تؤسسها وتفرضها الدولة، لكن هذا التسامح كان يتوقف على هوى الأكثرية من الناس أو على الحاكم، وكان يمكن سحبه بنفس السهولة التي أُعطي بها. تتطلب الحرية الدينية، قبل أي شي، الفصل بين الحياة الدينية لدولة ما وبين مؤسساتها السياسية، وهذا الفصل بين الدين والدولة، كما يُسمى، هو أيضاً منتج حديثاً نسبياً. أن إحدى أهم الثورات الإجتماعية التي رافقت إنتفاضة أميركا ضد إنكلترا، وبالتالي تبنّي الدستور، وقانون الحقوق، كان الفصل بين الكنيسة والدولة، في أول الأمر من جانب المستعمرات السابقة، ومن ثم على يد الحكومة الفدرالية. فبإدخالهم هذه الفكرة، والفكرة المرافقة الخاصة بحرية الممارسة الدينية، في الدستور، حوّل جيل المؤسسين ما كان في أحسن الأحوال إمتيازاً مؤقتاً لحق يتمتع بالحماية. هذا لا يعني أن الحرية الدينية، كما نعرفها اليوم، وُجدت كاملة سنة 1791، لكن بذورها زُرعت حينئذ. أما الازدهار العظيم لهذه الأفكار الخلاقة فسوف يحصل في القرن العشرين.


كان تاريخ أوروبا الغربية، التي جاء منها أول المستوطنين في المستعمرات الأميركية، يتميّز بالتماثل الديني العام، بين القرن الرابع ولغاية حركة الإصلاح البروتستانتية، حيث كانت الكنيسة الكاثوليكية بمثابة "المؤسسة" أو الكنيسة الرسمية. كان من الممكن التوقع أن تقود حركة الإصلاح البروتستانتية إلى بعض التسامح، والواقع أن بإمكان المرء أن يجد في كتابات مارتن لوثر وجون كالفين بعض المقاطع التي تدعو إلى التسامح وإلى حرية المعتقد. لكن سرعان ما أقام البروتستانت، في المناطق التي سيطروا عليها، كنائسهم الخاصة. ولا غرابة في ذلك لأن لوثر لم يعترض أبداً على الأفكار التي تقول بوجود ديانة واحدة حقيقية، وأنه يجب إزالة جميع المعتقدات الأخرى، وانه يجب أن يكون في كل دولة دين واحد.

لكن حركة الإصلاح البروتستانتية شقت وحدة أوروبا الدينية. وفي بعض البلدان، قادت الخلافات الدينية إلى حروب أهلية مريرة، غالباً ما استمرت عشرات السنين. كان هذا ما راود ذهن جيمس ماديسون عندما كتب أن "سيول الدم سالت في العالم في محاولات عقيمة من جانب القوى العلمانية لإطفاء الخلافات الدينية عن طريق حظر جميع الإختلافات في الاراء الدينية". في هولندا الصغيرة وحدها وازنت الفرق الدينية بعضها البعض فتبنى المواطنون الصالحون، في القرن السابع عشر، سياسة "عِش ودع الآخرين يعيشون"، ما أتاح ليس للكاثوليك والبروتستانت فحسب بل أيضاً لليهود، العيش في جو من التسامح المتبادل. كان أميركيو جيل الثورة على تمام المعرفة بما حدث في هولندا، لكن أعمالهم أملتها بالدرجة الأولى تجربتهم الإستعمارية الخاصة كمستعمرات بريطانية.

في مطلع القرن السابع عشر، بدأ استعمار أميركا الشمالية، ونقل الإنكليز رؤيتهم بالنسبة للمجتمع الصالح إلى العالم الجديد. أهم ما في الأمر انه بالنسبة للدين، كان جميع المستوطنين الجدد يؤمنون بالكنيسة كمؤسسة، وبادروا فور تأسيس مستوطناتهم، إلى إنشاء كنائس لهم. ثمة مثال شهير وارد في نشرة "فيرست فروتس" في نيو إنغلاند، وهي نشرة صدرت سنة 1643 تصف السنوات الأولى لمستوطنة مساتشوستس باي، حيث يقول الكاتب، "بعد أن حملنا الله بسلام إلى نيو إنغلاند... بنينا منازلنا، وأمّنا ضروريات معيشتنا، وشيدنا أماكن مناسبة لعبادة الله، وأقمنا حكومة مدنية."

فبدأً بمستوطنة جيمستاون سنة 1607 ولغاية الثورة الأميركية، سنة 1776، أقامت المستعمرات البريطانية في أميركا الشمالية، مع بعض الاستثناءات القليلة، كنائسها. ففي نيويورك وفي المستعمرات الجنوبية، تمتعت الكنيسة الإنكليزية (الانغليكانية) بنفس الوضع القانوني الذي كان لها في البلد الأم، بينما سادت في نيو إنغلاند أشكال منوعة من الأبرشيات الكنسية. ومارست هذه المستعمرات باستمرار التميّيز ضد الكاثوليك، واليهود، بل وحتى ضد البروتستانت المخالفين.

في عام 1656، منعت المحكمة العامة لمساتشوستس أي وجود لطائفة الكويكرز في المستعمرة؛ وإذا ما وجد أحدهم، كان يحبس، ويُجلد ويُنفى. لكن الكويكرز تشبثوا بمعتقداتهم، فأمرت الهيئة التشريعية في السنة التالية بأن تُبتر إذن الكويكرز الذكور المنفيين عندما يعودون؛ وإذا عادوا ثانية، تبتر الأذن الثانية. أما الإناث العائدات، فكنّ يجلدنّ "بقساوة". وفي حال عودة الذكور والإناث للمرة الثالثة، كان "يثقب لسان الذكور أو الإناث بالحديد الحامي". لكن الكويكرز استمروا في المجيء إلى أن قررت المحكمة العامة، سنة 1658، عقوبة الموت شنقاً، وهي العقوبة التي كانت تطبق بحق الرهبان اليسوعيين والرهبان الكاثوليك الآخرين الذين يعودون بعد نفيهم. بين سنة 1659 وسنة 1661، تم شنق إمرأة وثلاثة رجال في الساحة العامة لمدينة بوسطن. سنة 1774، وفي الوقت الذي كان المستوطنون يحتجون على تعدّي البريطانيين على حقوقهم، أبلغ الكاهن آيزاك باكوس، زعيم المعمدانيين في مساتشوستس، الحاكم والمجلس أن 18 معمدانياً قد أودعوا السجن في نورثهامبتون خلال أقسى أيام الشتاء لأنهم رفضوا دفع الضرائب لراعي أبرشية المدينة. في تلك السنة، كتب جيمس ماديسون إلى صديق: "مبدأ الإضطهاد الشيطاني والجهنمي هذا يتفشى لدى البعض ... ففي المقاطعة المحاذية هناك ما لا يقل عن خمسة أو ستة رجال من حسني النية داخل السجون لأنهم عبّروا عن مشاعرهم الدينية التي كانت على العموم قويمة جداً ... لذا، علي أن أرجوك أن ... تصلي لحرية الضمير للجميع."

رغم هذا، فقد تنامت الضغوط، منذ بداية نشوء المستوطنات في أميركا، وعلى الأخص في المستعمرات الشمالية، ضد سيطرة المؤسسة الدينية والامتثال العام لها. فحتى في سنة 1645 المبكرة، أرادت أكثرية النواب في المحكمة العامة في بليموث (مساتشوستس) "السماح والمحافظة على التسامح الديني التام والحر لجميع الرجال الذين يحافظون على السلام الأهلي ويخضعون للحكومة؛ ولم تكن هناك أي استثناءات بالنسبة (للأتراك القادمين من الولايات الخاضعة للحكم العثماني)، واليهود، والبابويين، والآريين، والسوسينيين، والنيكولايتانيين، والعائليين، أو غيرهم، الخ...". وفي رود آيلاند المجاورة، أسس رودجر وليامز، مستعمرة أوجدت بيئة لحرية شبه تامة للدين. وقد وصف وليامس برَسول الحداثة في تلك المنطقة وهو يستحق بكل تأكيد هذا اللقب لما قام به من أعمال. فهو لم يحبّذ فقط حرية المعتقد بل قاوم المؤسسة الدينية وفعل ذلك لإيمانه بأن هذه المؤسسة لا تؤذي المجتمع المدني فحسب بل الدين كذلك. كان وليامس أحد الأصوات القليلة في مستعمرات القرن السابع عشر التي نادت بهذا المبدأ.

ومع أن المؤسسات الدينية الرسمية دامت لغاية سنة 1776، كان على المستعمرات عملياً السماح بدرجة معينّة من التسامح الديني. في البداية، جاء المستوطنون من خلفيات متجانسة نسبياً، لكن بعد ذلك بوقت قصير، جاءت إغراءات العالم الجديد بالمهاجرين من كافة الجزر البريطانية فضلا عن شمال أوروبا وغربها. وجاء الكثيرون ليس لأن أميركا وفّرت لهم حرية دينية أكبر مما تمتعوا بها في بلادهم، بل بسبب الفرص الاقتصادية. ولم يشارك جميعهم العقيدة الطائفية لوجهات نظر البيوريتان والانجيليين (الانغليكان) في المستعمرات الوسطى والجنوبية. فقد جاء المعمدانيون، واليهود، والكاثوليك، واللوثريون وغيرهم، ولدى وصولهم، راحوا يحتجون مطالبين بعدم جواز إخضاعهم للضرائب لصالح كنيسة لا يرتادونها، أو إجبارهم على اتباع عقيدة لا يشاركون فيها.


في بداية الثورة، نزعت فرجينيا، على غرار العديد من الولايات، الصفة الرسمية عن الكنيسة الانغليكانية التي كان الكثيرون يربطون بينها وبين الحكومة الملكية البغيضة. ضَمِنَ دستور فرجينيا، سنة 1776، لكل شخص المساواة في ممارسة دينه بحرية وكاد أن يصل إلى إعلان فصل الكنيسة عن الدولة، مما ولّد الخيبة لدى المعمدانيين، أوسع مجموعة معارضة في الولاية. واعتقدت مجموعات أخرى، لا تزال موالية للعقيدة الانغليكانية (الذين سيسمون بعد ذلك بقليل، الأسقفيين)، أن الضرائب المالية يجب أن تساند الدين. وكانوا يفكرون أن الضرائب لا يجوز أن تذهب إلى طائفة واحدة بل يجب أن تستخدم لمساعدة جميع الكنائس (المسيحية البروتستانتية).

ان نضال فرجينيا من أجل إرساء الحرية الدينية الكاملة جدير بالتوقف عنده لبعض الوقت لأن أثنين من كبار مهندسي الدولة الأميركية، توماس جفرسون، واضع إعلان الاستقلال، وجيمس ماديسون، المعروف بأب الدستور، شاركا فيه، وسوف يخدم الرجلان لاحقاً كرئيسين للولايات المتحدة.

كتب توماس جفرسون "قانوناً للحرية الدينية" يقول فيه، من جملة ما يقوله، "لا يجوز إجبار أحد على التردد على كنيسة أو مساندة أي عقيدة، أو مكان ديني أو رجل دين أيّاً كان". وقد أقرت الهيئة التشريعية في فرجينيا هذا القانون. كان جفرسون يؤمن بأن الدين مسألة شخصية بين الفرد والله، وهو بالتالي أبعد من متناول الحكومة المدنية. ولم يحصر جفرسون تلك الحرية بالفرق البروتستانتية أو حتى بالمسيحيين، بل شمل جميع المجموعات، وكان يعتبر أن هذه الحرية ليست هبة من اجتماعات المجلس التشريعي بل إحدى "الحقوق الطبيعية للجنس البشري". كانت أفكار جفرسون متقدمة أكثر بكثير من أفكار مواطنيه في الثمانينات من القرن الثامن عشر، وكانت هناك، حتى في ولاية فرجينيا التي وُلدت فيها، معارضة قوية لإقتراحه، وعلى الأخص من جانب الكنائس التي كانت تريد مساعدة من الدولة.

غادر جفرسون إلى باريس كسفير للولايات المتحدة لدى فرنسا، وانتقل النضال من أجل الحرية الدينية إلى صديقه وتلميذه، جيمس ماديسون، الذي كتب أحد أهم الوثائق في التاريخ الديني لأميركا "مذكرة واحتجاج على فرض الضرائب الدينية". كان ماديسون يقول، على غرار جفرسون، أن طبيعة الدين الخاصة أساساً والطوعية لا يجوز أن تخضع للحكومة بأي طريقة ما. أن فرض الضريبة، حتى ولو وُزّعت بين جميع الأديان يبقى، رغم ذلك، بمثابة إضفاء الطابع الرسمي على الدين ويجب بالتالي معارضته، مهما بدا معتدلاً أم نافعاً في الظاهر. فالحجج التي ظهرت قبل 200 سنة لا تزال تدوي بقوة اليوم.

مذكرة واحتجاج
1786

1. لأننا نعتبرها حقيقة أساسية لا يمكن إنكارها "بأن الدين أو الواجب الذي ندين به لخالقنا وطريقة تحقيقنا له، يمكن توجيهه عن طريق العقل والإقناع فقط وليس بالقوة أو العنف". وعليه فان دين كل إنسان يجب أن يترك لقناعة وضمير كل إنسان؛ وانه حق كل إنسان أن يمارسه كما يمليه عليه ضميره. هذا الحق هو في طبيعته حق لا يمكن التصرف به. وهو حق غير قابل للتصرف، لأن آراء الرجال، الذين يعتمدون فقط على الأدلة التي تراها أفكارهم لا يمكن أن تتبع ما يميله عليها الآخرون: وهي غير قابلة للتصرف أيضاً لأن ما هو هنا حق إزاء الرجال، هو واجب تجاه الخالق. أنه لمن واجب كل إنسان أن يُجّل الخالق وبالطريقة التي يعتقد انها مقبولة لديه ...

2. حيث أنه إذا كان من الواجب إعفاء الدين من سلطة المجتمع عامة، فان إخضاعه للهيئة التشريعية يكون محظوراً أكثر. فما هذه الهيئة إلاّ من مخلوقات المجتمع والحاكمة نيابة عنه. فسلطانها القضائي مشتق ومحدود: فهو محدود بالنسبة للمساواة بين دوائر سلطانها القضائي، وهو بالضرورة محدود أكثر بالنسبة لناخبيها. فالحفاظ على حكومة حرة لا يتطلب مُجرد أن تكون الحصص والحدود التي تفصل بين كل دائرة سلطة ثابتة دون تغيير؛ بل بصورة أخصّ أن لا يجوز لإحداها أن تتجاوز الحاجز الكبير بينها الحامي لحقوق الناس ...

3. حيث أنه من اللازم أن نأخذ حذرنا من أولى تجارب حريتنا؛ اننا نعتبر هذا الحرص المتشكك كأول واجبات المواطنين، وإحدى أنبل ميزات الثورة الماضية ... اننا نحترم كثيراً هذا الدرس فلن نسارع إلى نسيانه. من لا يرى أن السلطة ذاتها التي يمكنها أن تضفي الطابع الرسمي للمسيحية، وتستثني جميع الديانات الأخرى، يمكنها أن تعطي وبنفس السهولة، الطابع الرسمي لأية طائفة مسيحية خاصة، باستثناء جميع الطوائف الأخرى؟ وان السلطة نفسها التي تجبر مواطناً على المساهمة بثلاثة بنسات مما يملك دعماً لأي كنيسة رسمية، قد تجبره أيضاً على اتباع أي كنيسة رسمية أخرى في جميع الحالات؟

دفعت قوة حجة ماديسون الناخبين في فرجينيا إلى انتخاب مجلس تشريعي للولاية لم يعارض إعطاء الصفة الرسمية لكنيسة واحدة فحسب، بل وعارض أيضاً فرض الضرائب على الناس لجميع الكنائس. وفي دورتها التالية، تبنّت الجمعية العمومية إحدى الوثائق التأسيسية في تاريخ أميركا، أي نظام فرجينيا للحريات الدينية. فالحجة التي قدمها توماس جفرسون هي أن الدين هام وأن ممارسته بحرية ضرورية لسعادة الجنس البشري ولرفاهيته، لدرجة يجب معها حمايتها من الدولة. فلا يجوز فرض الضرائب على الناس سواء لصالح كنيسة رسمية لا يؤيدونها، أو حتى لمساعدة كنيستهم ذاتها. فالدين يزدهر بصورة أفضل عندما يُترك أمره لتقوى المنتمين إليه.

نظام فرجينيا للحرية الدينية
1786

حيث أن الإله القدير خلق الفكر حراً؛ وحيث ان جميع محاولات التأثير عليه بالعقوبات الزمنية أو بأعبائها، أو بسبب فقدان الأهلية المدنية، لا تؤدي إلاّ إلى توليد عادات الخبث والحقارة، وتشكل ابتعاداً عن مخطط الأب المقدس المؤسس لديننا، الذي بصفته سيّد أجسادنا وعقولنا، لم يختر، مع هذا، أن ينشر هذا الدين عن طريق الإكراه، كما كان بوسع هذا الإله القدير أن يفعل ...

فلتسّن الجمعية العمومية انه لا يجوز أن يجبر أي إنسان على ممارسة أو مساعدة أي عقيدة دينية أو مكان عبادة أو رجل دين أيا كان، وأن لا يُجبر، أو يُمنع، أو يضايق في جسمه أو في ما يملك، أو أن يتحمل العذاب بسبب آرائه أو معتقده الديني؛ بل يجب أن يكون جميع الناس أحراراً في ممارسة آرائهم، وأن نحافظ بالحجة على آرائهم، في مسائل الدين، وأن ذلك لا يجوز في أي حال، أن يُقلّل أو يُوسّع، أو يُؤثر على أهليتهم المدنية ... إننا أحرار في إعلان، وإننا نعلن، أن الحقوق المذكورة هنا هي الحقوق الطبيعية للجنس البشري، وإنه إذا ما سُن أي قانون لإبطال تلك الحقوق، أو للحّد من مفعولها، فإن مثل هذا القانون سيكون مخالفاً للحق الطبيعي.


ومع أننا نعطي اليوم القسط الأكبر من الفضل بالنسبة للحرية الدينية إلى التعديل الأول للدستور، فإن تبني نظام الحرية الدينية في فرجينيا شكّل، في زمانه، خطوة أوسع للابتعاد عن دعم الدولة وفرض عقيدة دينية واحدة، وباتجاه مجتمع منفتح ومتسامح. يكمن مغزى هذا النظام في الافتراض أن المسائل الدينية هي ذات طابع شخصي تماماً، بعيداً عن نطاق الدولة الشرعي. لقد جسّد توماس جفرسون وجهة النظر هذه عندما كتب إلى صديق يقول: "لم أبح أبداً بديني، ولا حاولت أن أعرف دين الآخرين. لم أحاول أبداً تحويل أحد عن دينه، ولا تمنّيت تغيّير عقيدة أحد. لم أحكم أبداً على دين الآخرين ... لأنه ينبغي قراءة ديننا من حياتنا وليس من كلامنا."

في الوقت الذي تم فيه تشكيل الحكومة الجديدة بموجب الدستور، كانت الأفكار التي تحملها الوثيقتان قد انتشرت عبر الولايات الأميركية الجديدة. وعلى الرغم من أن بعض الولايات أبقت لعقود قليلة على الكنائس الرسمية، إلاّ أنه كان هناك اتفاق عام على ان الحكومة القومية لا يجوز أن تتدخل في شؤون الدين. فكما كتب جون آدامز، "آمل أن لا يتدخل الكونغرس مطلقاً في الشؤون الدينية إلى أبعد من تلاوة صلواته، وأن يصوم وأن يقدم الشكر مرة في السنة. لندع كل مستعمرة تمارس ديانتها دون تحرشّ."

الواقع، أن ولايات عديدة صادقت على الدستور بشرط أن يُعدّل لكي يشمل قانوناً للحقوق للتأكد من ان الكونغرس لن يتدخّل، ولهذا الغرض مارس جايمس ماديسون مواهبه الكبيرة خلال الكونغرس الأول لكي يجتمع هذا الأخير بموجب الدستور الجديد. ومن خلال جهوده جاءت التعديلات العشر التي صُدّق عليها سنة 1791 وعُرفت مجتمعة بقانون الحقوق. يقول أول تلك التعديلات:

لا يحق للكونغرس أن يسن قانوناً يتعلق بتأسيس دين للدولة أو يحظر الممارسة الحرة لأي دين؛ أو يحدّ من حرية التعبير أو الصحافة؛ أو حق الناس في الاجتماع وفي مطالبة حكومتهم في تصحيح مظالمها.

إن جمع تلك الحقوق المختلفة في نفس التعديل هو أكثر من مُجرّد اقتصاد أدبي. انها تتعلق جميعها بحق الناس في التعبير، وان يكونوا متحررين من إكراه الدولة في التعبير عن معتقداتهم السياسية والدينية، وعن أفكارهم، وحتى عن شكاويهم. وينبغي أن نتذكر انه في الوقت الذي صاغ فيه ماديسون تلك التعديلات، كثيراً ما كان الدين والمعتقدات الدينية تتضمن قضايا سياسية هامة. كان على ماديسون أن يكسب معركة سياسية لكي يصبح نظام الحرية الدينية قانوناً، كما جرت معارك مماثلة في الولايات الأخرى. ولا غرابة في أن العديد من قضايا التعديل الأول التي عُرضت لاحقاً على المحكمة الأميركية العليا تخطت ما كان يُفرض اصطناعياً من قيود على حرية التعبير البسيط أو الصحافة أو الدين؛ وبدلاً من ذلك، تناولت هذه القضايا القيود المفروضة على سلطة الحكومة للحد من حرية فكر الإنسان ومن حقّه غير المُقيّد في التعبير.

شهدت المئتا سنة الماضية تفاعل فكرة الحفاظ على الفصل بين الحكومة والدين بحيث يُتاح لكل شخص حق الإيمان أو عدمه، حسب ما يمليه عليه ضميره الشخصي. هذا لا يعني انه لم يحصل أي إجحاف ديني في الولايات المتحدة. فقد كان الكاثوليك واليهود ومجموعات أخرى ضحايا التمييز، لكنه كان تمييزاً اجتماعياً لم تُقرّه الدولة ولم تفرضه. أما التمييز القانوني الذي استند إلى المعتقدات، فلم يدم سوى وقت قصير بعد الثورة ثم تلاشى.

والحقيقة انه منذ زمن الثورة ولغاية القرن العشرين، وعلى الرغم من التنوع الكبير بين شعوبها وأديانها، كانت أكثرية الأميركيين تنتمي إلى العقيدة المسيحية البروتستانتية. فالجماعات التي حادت عن الإتجاه السائد غالباً ما وجدت نفسها عرضة للشبهات، لكن هذه المجموعات وعلى الأخص اليهود والكاثوليك، وجدت دائماً بين الأكثرية البروتستانتية من يدافع عنها وعن حقها في العبادة بحرية حسب ما تمليه عليه ضمائرها.

لنأخذ مثلاً معروفاً جداً. ففي نيويورك، في مطلع القرن التاسع عشر، اعترف سارق نادم على أخطائه بذنبه، أمام كاهن كاثوليكي، الأب أندرو كوهلمن، الذي طلب منه إرجاع السلع المسروقة، ففعل السارق. طلبت الشرطة من الأب كوهلمن تسمية السارق لكنه رفض معتبراً أن المعلومات التي يتلقاها بموجب الاعتراف تبقى سرّية بالنسبة للجميع باستثناء الكاهن والتائب. وبعد أن أوقف الكاهن بتهمة إعاقة التحقيق جرت محاكمة الأب كوهلمن أمام محكمة الجلسات العامة في مدينة نيويورك. كان محامو الجانبين وكذلك هيئة القضاة من البروتستانت، كما أن المحامي الذي دافع عن الأب كوهلمن بنى حجته استناداً إلى أوسع ما يمكن من شروط الممارسة الحرة للدين.


حجة المحامي في الدفاع عن سّر الاعتراف
1813

سوف أبدأ في النظر في الاقتراح الأول الذي اعتمدت التمسك به، وهو ان المادة 38 من دستور (ولاية نيويورك) تحمي الراعي المحترم بموجب الإعفاء الذي يدّعيه، بغضّ النظر عن أي اعتبار آخر.

البند بكامله يَرِد في الكلمات التالية:
"ولما كان مطلوبا منا بموجب المبادىء الخيّرة للحرية العقلانية ليس استبعاد الإستبداد المدني وحسب، بل أيضاً الحماية ضد الاضطهاد الروحي وعدم التسامح، والذي بواسطته استطاع التعصب الأعمى وأطماع رجال الدين والأمراء الضعفاء والأشرار إيذاء الجنس البشري: تذهب هذه الجمعية إلى أبعد، بأسم وبموجب السلطات الممنوحة لها من قبل أهالي هذه الولاية الصالحين، فتقضى، وتقرر، وتعلن أن الممارسة الحرة والاستمتاع بمهنة الدين والعبادة، دون تمييز أو تفضيل، سوف تكون متاحة إلى الأبد ضمن هذه الولاية لكل الجنس البشري. شرط أن لا تترجم حرية الضمير الممنوحة هنا، لتبرير الأعمال الفاسقة، أو لتبرير ممارسات لا تتناسب مع سلام وسلامة هذه الولاية."

والآن، لا يمكننا أن نتصّور بسهولة تعابير أكثر رحابة وشمولية من تلك التي استخدمتها الجمعية. لقد كانت الحرية الدينية الهدف الكبير الذي كانوا يفكرون به. فقد شعروا انه من حق كل مخلوق أن يعبد ربه حسب ما يمليه عليه ضميره. وحاولوا أن يؤمنوا، إلى الأبد، لكل الجنس البشري، دونما تفريق أو تفضيل، الممارسة الحرة والإستمتاع بالمهنة والعبادة الدينية. وقد استخدموا لغة تتناسب مع هذا الغرض. فهذا هو ما قالوه.

مرة أخرى، ما من شك في أن الجمعية أرادت أن تضمن حرية المعتقد. الآن، أين هي حرية المعتقد بالنسبة للكاثوليك إذا تعرض الكاهن والتائب بهذا الشكل؟ هل للكاهن حرية المعتقد إذا أُكره هكذا؟ هل للتائب حرية المعتقد إذا اقتيد إلى المحكمة للإجابة عما قاله في اعترافه؟ هل لأحدهما امتياز للاعتراف؟ هل يتمتعان بسرّ التكفير عن الخطيئة؟ إذا كانت هذه هي الحرية الدينية التي أراد الدستور تأمينها -- فإنها مُربكة بقدر ما هي مُربكة الحرية التي كانت، في الأزمنة الغابرة، للرجل المحكوم بالتعذيب في الماء بحيث يعتبر مُذنباً إذا طاف -- ويعتبر بريئاً إذا غرق.....

وهكذا، وفي مطلع القرن التاسع عشر، توصل على الأقل بعض الذين كانوا يفكرون بما تعنيه الحرية الدينية إلى الموقف الحديث الأساسي. فقد أيد القضاة في قضية الأب كوهلمن بالاجماع مبدأ حرمة كرسي الاعتراف، وفي سنة 1828، أعطت الهيئة التشريعية في نيويورك الطابع التنفيذي لعقيدة القانون العام القديم الخاصة بالسرية بين الكاهن والتائب. ومع ان الكاثوليك وحدهم يمارسون الاعتراف كطقس، فان فكرة السرية المحيطة بالاتصالات بين شخص ما ومرشده أو مرشدتها، سواء كان كاهناً أو قِساً أو حاخاماً أو إماماً، قد أصبحت مقبولة في كل من القانون النظامي والعام عبر الولايات المتحدة. فالذي بدأ كاختبار للممارسات الدينية انتشر ليعزّز حرية المعتقد لدى الجميع.

ظل الكاثوليك يجدون من يدافع عنهم عبر الزمن عندما كان العديد من البروتستانت ينظرون اليهم بشك، متذكرين النزاعات الدموية في أوروبا. عارض جون تايلر، الرئيس السابق للولايات المتحدة، حزب "لا نعرف شيئا" في الخمسينات من القرن التاسع عشر، وهو حزب يمثل مجموعة صغيرة من طائفة "الأصليين"، كانت له كلمته، وكان يعارض الكاثوليك. ففي رسالة بعث بها إلى ولده، انتقد تايلر جماعة "لا نعرف شيئاً" وامتدح الكاثوليك الذين "يبدو لي انهم كانوا أوفياء بنوع خاص لدستور هذا البلد كما أعطى كهنتهم مثالاً حول عدم التدخل في السياسة، الأمر الذي يُوفر مثالاً جديراً بالتقليد من جانب رجال الدين في الطوائف الدينية الأخرى في الشمال الذين لم يتردّدوا في النزول إلى الساحة (السياسية) والذين لوّثوا ألبستهم الدينية بغبار النزاعات المريرة. إن روح عدم التسامح الظاهر ضد الكاثوليك ... سوف يثير شعوراً قوياً بالاستياء من جانب أكثرية واسعة من الشعب الأميركي؛ ذلك أنه إذا كان ثمة مبدأ أسمى من أي مبدأ آخر، فهو مبدأ الحرية الدينية ...".

هذا لا يعني أن معاداة الكاثوليك قد زالت. فقد جاءت موجات الهجرة الكبرى إلى الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بملايين المهاجرين الجدد، وكان الكثيرون منهم من بلدان كاثوليكية في جنوب أوروبا وشرقها. كان العديد من البروتستانت ينظرون إلى هؤلاء المهاجرين المحتشدين في مدن مزدحمة على أنهم لا يشكلون جزءاً من نسيج البلاد، ورغم أن الولايات المتحدة لم تعرف أبداً الحروب الدينية الدامية التي عاشتها أوروبا، إلا أن الشعور المعادي للكاثوليك بلغ درجة عالية. ساهم هذا التحيّز بكل تأكيد في هزيمة ألفريد سميث، أول مرشح كاثوليكي للرئاسة، سنة 1924. بعد ستة وثلاثين عاماً من ذلك التاريخ، عندما حصل جون فتزجرالد كينيدي على ترشيح الديمقراطيين له للرئاسة، اعترف انه كان عليه لكي يُنتخب، أن يواجه وأن ينزع فتيل هذا التحيّز. فطلب وحصل على دعوة للتحدث في اجتماع للقساوسة المعمدانيين الجنوبيين حول معتقداته ككاثوليكي وحول واجباته كمواطن أميركي. وهناك اعتقاد شائع بأن هذا الحديث الذي لاقى اهتماماً على المستوى القومي، ساعد كثيراً في نزع فتيل المسألة الدينية خلال الانتخابات.

جون ف. كينيدي يتحدث حول الكنيسة والدولة
1960

لأنني كاثوليكي ولأن أيا من الكاثوليك لم يُنتخب مرة كرئيس، تم التعتيم على القضايا الحقيقية في هذه الحملة، وربما عن قصد لدى بعض الجهات الأقل مسؤولية. لذا يبدو لي أنه من الضروري أن أعلن مرة أخرى، ليس بأي نوع من الأديان أؤمن، حيث أن على ذلك الاّ أن يكون مهماً إلاّ بالنسبة لي، بل أي نوع من أميركا أؤمن به.

أؤمن بأميركا يكون فيها الفصل بين الدين والدولة مطلقاً، حيث لا يقول أي أسقف كاثوليكي للرئيس (إذا كان كاثوليكياً) كيف عليه أن يتصرف، وحيث لا يقول أي قس بروتستانتي لأفراد رعيته لمن عليهم الاقتراع، حيث لا تمنح أية كنيسة أو مدرسة تابعة لكنيسة أية مساعدات مالية أو تفضيل سياسي، وحيث لا يحرم أي إنسان من منصب عام لمجرد أن دينه يختلف عن دين الرئيس المسؤول عن تعيينه أو الناس الذين قد ينتخبونه.

أنني أؤمن بأميركا لا تكون، رسمياً، لا كاثوليكية ولا بروتستانتية ولا يهودية، حيث لا يطالَب أي موظف رسمي أو يقبل تعليمات حول السياسة العامة من البابا، أو المجلس الوطني للكنائس أو أي مصدر إكليركيّ آخر، حيث لا تسعى أي هيئة دينية إلى فرض إرادتها مباشرة أو بصورة غير مباشرة على عامة الناس أو على الأعمال الرسمية للمسؤولين، وحيث الحرية الدينية غير مُجزأة لدرجة يعتبر معها التعدي على دين واحد كتعدٍّ على الجميع...

هذا هو نوع أميركا الذي أؤمن به، وهذا هو نوع أميركا التي حاربتُ من أجلها في جنوب المحيط الهادي، والنوع الذي مات من أجله شقيقي في أوروبا. لم يقل أحد آنذاك انه قد يكون لدينا "ولاء مزدوج"، واننا "لا نؤمن بالحرية" أو أننا ننتمي إلى مجموعة عديمة الولاء تهدّد "الحريات التي قضى من أجلها أجدادنا."

الحقيقة أن هذا هو نوع أميركا التي قضى لأجلها أجدادنا عندما فرّوا إلى هنا هرباً من إختبارات القسم الديني الذي كان يحرم معتنقي الأديان الأقل حظوة من الوظائف، وعندما حاربوا من أجل الدستور، وقانون الحقوق، ونظام فرجينيا للحرية الدينية، وعندما حاربوا في المقام الذي زرته اليوم، حصن آلامو. لأنه جنباً إلى جنب مع بووي وكروكت، مات فونتس، وماك كافرتي، وبايلي، وبديليو، وكاري -- لكن أحداً منهم لم يعرف إذا كانوا كاثوليكا أم لا، لأنه لم يكن هناك اختبارات للدين ...

أنا لا أتحدث باسم كنيستي حول المواضيع العامة، كما أن الكنيسة لا تتحدث باسمي.


ومع أن البروتستانت لم يخشوا أي مؤامرة يهودية (الواقع أن البيوريتانيين الأوائل كانوا معجبين باليهودية)، عانى اليهود من التعصب الديني الأعمى طيلة قرون. لم يكن على العالم الجديد أن يطيح بمؤسسات القرون الوسطى التي كرسّت العداء للسامية؛ وعلى الرغم من هذا، فإن بذور التحيّز عبرت المحيط الأطلسي، وكان على المجتمعات اليهودية الصغيرة التي تجمعت على الساحل الشرقي لأميركا التغّلب على ثمارها.

تلقى اليهود، على غرار الكاثوليك، المساعدة من البروتستانت الذين كان لديهم اعتقاد راسخ بأن لا مكان في الولايات المتحدة لنوع الإضطهاد الديني السائد في أوروبا. "من حسن الحظ"، قال جورج واشنطن للمجتمع اليهودي في نيوبورت" إن حكومة الولايات المتحدة التي لا توفّر للتعصب الديني أي تأييد، ولا تعطي الإضطهاد أية مساعدة، تطالب فقط بأن يتصرف الذين يعيشون تحت حمايتها كمواطنين صالحين". وقدّم جفرسون وماديسون ضمانات مماثلة بأن الحرية الدينية، وليس الاستبداد هي القاعدة في هذا البلد.

غير أن العديد من الأميركيين كانوا يعتبرون الولايات المتحدة بلداً بروتستانتياً، وإذا كانوا يخشون مؤامرة كاثوليكية، فانهم كانوا ينظرون بعدم الارتياح لليهود كذلك. ففي ولاية ماريلاند، كما في الولايات الأخرى، شكل قانون الحقوق الصادر بعد الثورة، خطوة كبرى إلى الأمام بإتجاه الحرية الدينية، لكنه حصرها بالمسيحيين. في بداية سنة 1818، قاد توماس كينيدي، عضو مجلس الولاية في ماريلاند، والمسيحي المتديّن، المعركة من أجل توسيع الحرية لتشمل اليهود أيضاً.


توماس كينيدي يسعى إلى منح حقوق متساوية ليهود ماريلاند
1818

وإذا ما سُئلتُ لماذا أبدي هذا القدر من الإهتمام من أجل الموافقة على هذا القانون، سأجيب علن ذلك بكل بساطة، لأنني أعتبر انه من واجبي أن أفعل ذلك. لا يوجد يهود في البلد الذي جئت منه وليست لي أي معرفة بأي يهودي في العالم. لم أفعل ذلك بطلب منهم؛ بل ولم يكن أحد منهم على علم بأن الموضوع سوف يطرح في هذا الوقت ...

ثمة معارض واحد أخشاه في هذا الوقت، وهو التحيّز، فتحيّزاتنا، حضرة الرئيس، عزيزة علينا، وكلنا يعرف ويشعر بقوة تحيّزنا السياسي، لكن تحيّزنا الديني يبقى هو الأقوى، والأعزّ؛ فهما يتشبّثان بنا مدى حياتنا، ونادراً ما يغادراننا حتى على فراش الموت، وهذا ليس تحيّز جيل، أو عمر، أو قرن، ذاك الذي نقابله اليوم. لا، انه تحيّز انتقل من الآباء إلى الأبناء طيلة ما يقارب من الف وثمانمئة سنة.

ثمة عدد قليل من اليهود في الولايات المتحدة؛ وفي ماريلاند بالذات عددهم قليل جداً، لكن لو كان هناك يهودي واحد فقط، علينا أن نعطي هذا الواحد حقه.

حازت المعركة من أجل حقوق اليهود عندئذ على تأييد قوي من جانب الولايات الأخرى، ربما لأن اليهود كانوا جماعات صغيرة، أو ربما لأن الولايات الأخرى رأت فيهم مواطنين صالحين، أو ربما لأن التحيّز الصارخ أزعج العديد من المواطنين. دعت المقالات الافتتاحية في الصحف ولاية ماريلاند إلى إصلاح نفسها. فكتبت أسبوعية نايلز ردجستر النافذة: "من المؤكد أن يوم تلك الأمور قد ولىّ وانه لمن باب التعدي على الفطرة السليمة التحدث عن التمّسك بالنظام الجمهوري بينما نرفض حرية المعتقد في مسائل هامة مثل تلك التي لها صلة بما يدين به الإنسان لخالقه". كان لهذا الضغط أثره، ومنحت ماريلاند اليهود الحقوق السياسية والدينية كاملة سنة 1826. وعندما نشبت الحرب الأهلية، كانت نورث كارولاينا ونيو هامشاير لا تزالان تقيّدان الحقوق اليهودية، لكن هذه العوائق اختفت سنة 1868 وسنة 1877، على التوالي.

في زمن الحرب الأهلية، كانت فكرة الحرية الدينية قد انتشرت بشكل ملحوظ إنطلاقاً من موضوع نزع الصفة الرسمية عن الدين. فقد تبنت جميع الولايات تقريباً وطبّقت قانون الحقوق لأجل تأمين حرية المعتقد الفردي، وعلى الرغم من شعور شامل بان أميركا كانت بالدرجة الأولى دولة بروتستانتية، فأن هذه الولايات أزالت العوائق المدنية والسياسية عن الكاثوليك واليهود، كما أن الحكومة الفدرالية، المرتبطة بالتعديل الأول، لم تحاول أبداً التدخل في المسائل الدينية، وبدت الولايات المتحدة، في المسائل الدينية كما وفي الشؤون السياسية، للذين يعانون من الإضطهاد في العالم القديم، كما قال إبراهام لنكولن "آخر أفضل رجاء للحرية."


تاريخ النشر: 08 تموز/يوليو 2004 آخر تحديث: