حقوق الأفراد: الحرية الفردية ووثيقة الحقوق

الفصل التاسع: حقوق الملكية

لن ُيحرم أي فرد من الحياة، أو الحرية، أو الملكية،
دون تطبيق الإجراءات القانونية، كما لن تُصادر أملاك خاصة
للاستخدام العام، دون دفع تعويض عادل
- التعديل الخامس لدستور الولايات المتحدة

تبدو حقوق الملكية الخاصة في نظر العديد من الناس على أنها فكرة بالية جداً، إحدى بقايا عهد قديم ولىّ، كانت تُحدد فيه منزلة الفرد وفقاً لملكيته العقارية. كانت معظم الأملاك تعود، في تلك العهود، إلى قسم صغير من السكان. وهذا ما منحهم، بالإضافة إلى الثروة والمركز الاجتماعي المرموق، سلطة سياسية واقتصادية. تُعيد نظرية الملكية إلى الأذهان زمناً كانت فيه غالبية الناس لا تملك سوى القليل، أو لا شيء على الإطلاق. مثلاً، كانت النساء يفقدن سيطرتهن على كل ما يملكن عند زواجهن. وهكذا خضعت الحكومة والمجتمع لسيطرة نخبة صغيرة العدد من المالكين. معظمنا يفضل الوضع الحالي حيث جرى توزيع الأملاك على نطاق أوسع، وحيث يمكن للناس التمتع بمركز اجتماعي استناداً إلى إنجازاتهم، إضافةً إلى مقدار ثروتهم، وحيث لم تعد النساء مقيّدات بنظريات بالية وحيث يتمتع كل الناس بحق التصويت دون تقييد يحتم على الفرد أن يكون صاحب ملك عقاري.


إلا أن حق امتلاك العقار والتمتع به كان دوماَ جزءاً مهماً من حقوق الناس. ففي مؤتمر فيلادلفيا، الذي وضع الدستور، ذّكّر جون روتلدج من ولاية ساوث كارولاينا المندوبين بأن "الملكية الخاصة هي بالتأكيد الغرض الرئيسي الذي يسعى إليه المجتمع." لم يكن المندوبون بحاجة إلى الكثير من التذكير بذلك حيث أن كافة واضعي الدستور كانوا يؤمنون بأن احترام حقوق الملكية الفردية يكمن في صميم قلب العقد الاجتماعي. فعلاوةً على إدخالهم في مواد الدستور إجراءات وقائية مؤسساتية لحماية هذه الحقوق، قامت الدولة في وقت مبكر بإضافة أحكام هامة عبر تبني قانون الحقوق لهذه الحماية. كما أن الآباء المؤسسين لم ينووا توسيع هذه الحمايات بحيث تشمل الأرض أو الأصول الملموسة فحسب، بل لتشمل أيضاً جميع الحقوق الملازمة للملك، الملك الشخصي، المادي، أو غير المادي، آمنوا أن حق الملكية كان "ضامناً" لكل حق آخر لأنه بدون حق التملك والاستعمال، وتمتع الفرد بملكه متحرراً من التدخل الحكومي الاستبدادي فلا يمكن أن توجد أي حرية من أي نوع.

لا زالت حقوق الملكية مهمة لدى الشعب الأميركي. فالحق في ملكية ما تبتكره، أو تبنيه، أو تشتريه، أو حتى تُمنحه كهدية، وتعرف بأن الحكومة لا تستطيع نزعه منك إلا بموجب تطبيق إجراءات قانونية صارمة، يزودك بالأمان المادي الذي يسير جنباً الى جنب مع حريات أقل ملموسية، كحرية الكلام والخصوصية. يبقى الناس الذين تَتهدد حقوقهم الاقتصادية تحت رحمة حكومة استبدادية بقدر ما يبقى الذين يتقيّد حقهم في حرية التعبير أو حقهم في التصويت. وعند بحثهم موضوع الحقوق يتحدث فقهاء القانون، في أحيان كثيرة، عن "مجموعة من الحقوق" ويقصدون بذلك ترابطها الوثيق. فإذا ما توقفنا عن الاعتقاد بأن حقوق الملكية تشكل أساس جميع الحريات الأخرى، يبقى علينا أن نؤمن أن الحرية عبارة عن نسيج متناسق، يكون فيه كل حق من الحقوق التي تشملها تلك المجموعة من الحقوق مهماً للمحافظة على الحقوق الأخرى. يصح هذا القول بالتأكيد بالنسبة لحرية التعبير، ولا تقل درجة صحته بالنسبة لحقوق الملكية.

لم تكن ملكية الأرض، وهي الشكل المادي الذي كان في أوائل سنوات قيام الجمهورية أهم شكل من أشكال الملكية، تعني أبداً السيطرة المطلقة على تلك الملكية أو حقاً غير مقيد استخدامها وفق مشيئة المالك. وُضعت تقاليد، يرجع تاريخها دوماً إلى القانون العام الإنكليزي، قيوداً على الملكية. فمثلاً، منع مبدأ في القانون العام يتعلق بالإزعاج، أصحاب الأملاك من استخدام أراضيهم بطريقة تؤثر بصورة غير معقولة على حقوق جيرانهم. سمحت العادات غالباً بالصيد البري في أرض خاصة غير مسورة، أو فرضت على المالك السماح للغير بالوصول إلى الأنهر والبحيرات. كما كانت الأملاك العائدة لشركات تجارية تخضع لأنظمة معينة. على سبيل المثال، خضعت الحانات، وخطوط النقل بواسطة المعديات النهرية والعربات في كثير من الأحيان، إلى تنظيم صارم في إنكلترا كما في مستعمرات أميركا الشمالية. كانت الحكومات تستطيع فرض ضرائب، بل وفرضتها بالفعل، على الثروة الفردية. ورغم أن معظم الناس يعترفون بأهمية الضرائب لتزويد خدمات حكومية، فهم يعتبرون في نفس الوقت أن الضريبة هي مصادرة ما يملكه الأفراد. ربما كان الشكل الأكثر شدة للتدخل بحقوق الملكية الخاصة هو مبدأ حق الاستيلاء أو الإستملاك العام، الذي تستطيع السلطات الاستناد إليه لكي تجبر نقل ملكية عقار من مالك خاص الى الحكومة لغرض عام، مثل تشييد طريق أو بناء قناة.

رغم هذه التفرقة بين الحماية الكاملة لحقوق الملكية، والحدّ من هذه الملكية للأغراض العامة، لم تكن حدود القيود على التدخل الحكومي في هذه الحقوق ابداً واضحة بالكامل، ولم تبقَ دون جدال. مع مرور الزمن، تحوّل معنى الملكية نفسها (قطعة الأرض تبقى قطعة ارض، ولكن كيف ينظر الفرد إلى أمور مثل خيارات شراء أسهم في الشركات، أو حماية الاسم التجاري، أو تحسينات تُجرى على برامج للكومبيوتر؟) ولذلك، يُطلب من المحاكم، كما كان يُطلب منها عبر كامل التاريخ الأميركي، بأن تفسر ما ترمي إليه المبادئ الدستورية المختلفة المتعلقة بالملكية. في بعض الأحيان، كان القضاء يُعتبر مناصراً لحقوق الملكية وتم الترحيب بقراراته على أنها ضرورية لحماية الحرية الاقتصادية، ورعاية المنافسة، وحماية نظام المنشآت والشركات التجارية الخاصة. وبالمقابل، هاجم نقاد المحاكم نفس هذه القرارات لكونها تشكل حاجزاً بوجه تنفيذ إصلاحات ضرورية للغاية تهدف إلى حماية الضعيف، وكما انتقدوها لأنها تقوّض أسس دولة الرفاه العام الناشئة.

وفي حين أنه من الصحيح، في بعض الأحيان، حصول معارك بين قضاة محافظين يبغون تأمين الحماية الكاملة لما كانوا يعتبرونه حقاً لا يُمس من حقوق الملكية، وبين مُصلحين اعتقدوا بوجوب فرض حدود على شكل تقييدات، أو حتى نقل كامل للملكية، فإن النظر إلى هذه المعارك قد يؤدي إلى التغافل عن المفهوم الحقيقي لحقوق الملكية في التاريخ الأميركي. شملت معظم هذه المعارك ملكية الأعمال التجارية وعقود العمل، التي هي، رغم أهميتها، كانت، من أوجه عديدة، مسائل محدودة بفترة التحول الصناعي في الولايات المتحدة، أي تقريباً خلال الفترة الممتدة من سبعينات القرن التاسع عشر إلى ثلاثينات القرن العشرين. مضت هذه المعارك، وتم إقرار المسائل الأساسية فيها. فما من شك أن الحقوق في الملكية التجارية مهمة، ولكن يمكن تقييدها عند الضرورة لحماية الرفاهية العامة؛ إذ يجب، في أحيان كثيرة، أن تخضع حقوق ملكية الفرد لإفساح المجال أمام الدولة في تأمين حماية الضعفاء او المحرومين.

ولكن الاهتمام بالملكية ومحبتها، بمثابة كونها وسيلة لتواصل الفرد بمجتمعه، لا زالت قوية في الولايات المتحدة. فهي ليست، كما ادعى نقاد عديدون، مسألة بسيطة تتعلق بمجرد الحصول على المال والتلهف للحصول على ثروة. فعلى سبيل المثال، يعتبر عديدون ان امتلاك منزل لا يشكل مسألة تحقيق ملكية عقارية، بل مسألة تتعلق بتحقيق حلم، ومركز في المجتمع. يرجع هذا الارتباط بالملكية إلى زمن تأسيس الدولة، عندما قدم عدد كبير من المستوطنين إلى العالم الجديد ليس لغرض الحصول على الثروة، بل سعياً لامتلاك قطعة أرض يستطيعون استغلالها وتسميتها ملكاً خاصاً بهم.


جاي. هيكلر دي سان جان كريفكور
رسائل من مزارع أميركي
1792

لحظة دخولي أرضي الخاصة،تغمرني الأفكار النيّرة بالازدهار، بالحق الحصري، بالاستقلالية، فترتقي بذهني حتى النشوة. وأقول لنفسي، أيتها الأرض الثمينة، أي عرف قانوني فريد صُنعتِ منه بحيث جعلك تشكلين ثروة المالك المطلق. فماذا كان سوف يكون وضعنا، نحن المزارعون الأميركيون، من دون الملكية الصريحة لتلك الأرض؟ فهي تؤمن طعامنا وملبسنا، وحتى منها نستمد حيويتنا الفياضة العظيمة،وأفضل لحومنا، وأغنى شرابنا، وعسل نحلنا، كل هذا من هذه البقعة المميزة. فلا عجب إذا كنا نعتز بامتلاكها، ولا عجب إذا اجتاز هذا العدد الكبير من الأوروبيين، الذين لم يكن بمقدورهم القول إن قطعة ما من الأرض هي ملكهم، المحيط الأطلسي لتحقيق تلك السعادة. وهكذا، حوّل والداي الأرض التي كانت برية إلى مزرعة مبهجة، وبالتالي حققت لنا جميع حقوقنا؛ وتأسس عليها مركزنا، وحريتنا، وسلطتنا كمواطنين.

دفع حب الملكية الكثير من الناس للهجرة إلى العالم الجديد. بحلول القرن السادس عشر، لم تعد توجد أي ارض "حرة"، لا في الجزر البريطانية ولا في أوروبا الغربية. كان يملك كل مساحة من الأرض أحد ما، أكان فرداً أم حكومة على شكل أملاك التاج. عنت قوانين حق البكر في الإرث وجوب انتقال العقارات بالكامل إلى الابن البكر، وأصبح الذين لا يملكون أرضاً عاجزين إلى حد كبير. وفي ذلك الوقت، اكتسبت كتابات الفيلسوف السياسي الإنكليزي العظيم جون لوك (1632-1704) أهمية خاصة. أثّرت أفكاره بقوة على جيل الأميركيين الذين أعلنوا استقلالهم عن بريطانيا العظمى ووضعوا مواد الدستور. يعكس إعلان الاستقلال العديد من أفكار لوك حول الحكم، والحقوق الفردية، كما أن الدستور يتضمن نظريته حول حقوق الملكية.

في نظر لوك، نشأت الملكية الخاصة من القانون الطبيعي، ووجدت قبل إنشاء الحكومات. لذلك، لا يعتمد حق التملك على نزوات ملك أو برلمان، بل بالعكس، فإن الغرض الأساسي للحكومة هو حماية حقوق الملكية، حيث أن هذه الحقوق، أساس لكافة الحريات. وكما شرح ذلك المفكر السياسي الإنكليزي جون ترنشارد عام 1721، إذ قال، "جميع الرجال يتنشطون بالشغف للملكية ولحمايتها، حيث أن الملكية أفضل دعامة لتلك الاستقلالية التي يرغب بها بشغف كافة الرجال." فبدون حقوق في الملكية لا يمكن أن توجد أي حريات أخرى، وقد أوجد الناس الحكومة لحماية "أرواحهم، وحرياتهم، وممتلكاتهم"، أي ملكيتهم. وبما أن الحق في الامتلاك والتمتع بالملكية نشأ من القانون الطبيعي، فقد وُجدت الحكومات لحماية الملكية والحريات التي تنشأ عنها.

من كتابات المستوطنين الألمان
في ولاية ماريلاند
1763
تم وضع قانون البلاد بحيث يضمن لكل فرد التنعم الآمن بملكه، وحماية أقل الناس مرتبة من ظلم أشد الأقوياء، وضمان عدم نزع أي شيء عن فرد، دون حصوله على ما يرضيه مقابل ما نُزع منه.

كان هذا التقليد أشد قوة في العالم الجديد منه في العالم القديم. طالع المستوطنون بتوق شديد كتابات لوك، وغيره من الكتّاب الإنكليز في القرنين السابع عشر والثامن عشر، الذين دافعوا عن أهمية حقوق الملكية، والحدود القائمة بوجه قدرة الحكومة في تقييد هذه الحقوق. آمن رجال القانون الأميركيون بأن القانون العام بُني حول مبدأ حماية الملكية، ووجدوا دعماً لهذا الرأي في كتاب وليام بلاكستون،"شروحات حول قوانين إنكلترا"، الذي كان ذا أثر كبير. ترنّم بلاكستون بالملكية قائلاً، "إن الاعتبار لقانون الملكية الخاصة كبير لدرجة انه لا يُجيز أي انتهاك له." وعَكَس جون آدامز هذا التقليد عندما أعلن، في عام 1790، أن "حق الملكية يجب حمايته وإلا فلا يمكن نشوء حرية."

دستور ولاية نيو هامشير
1784

لكل الناس حقوق طبيعية معّينة، وجوهرية، ومتأصلة؛ من بينها، حق التمتع بالحياة والممتلكات وحمايتها، أي بكلمة واحدة، حق السعي للسعادة وتأمينها.


وهكذا، كما هو الحال بالنسبة لأحكام أخرى من الدستور، لم تُكتب الفقرات المتعلقة بالملكية على لوح فارغ، بل عكست الإرث الفكري لعصر التنوير والتجارب المعيّنة للمستعمرات. آمن الآباء المؤسسون بأن الملكية هامة. وضعوا قيوداً على الحكومة لتطبيق وجهة النظر تلك، ولمنع أعمال السلب التي زعموا انهم تعرضوا لها تحت التاج البريطاني. ولكن في حين قد يبدو الدستور على أنه وثيقة محافظة اكثر من إعلان الاستقلال الذي أطلق دعوة واضحة " للحياة، والحرية، ونشدان السعادة"، فإنه يحمي هذه الحقوق بقدر ما يحميها إعلان الاستقلال. والدستور صادَقَ عليه أيضاً الجيل نفسه الذي أعلن الاستقلال عن بريطانيا، واشترك في القتال ضدها خلال الثورة الأميركية، والواقع أن العديد من الرجال الذين وقّعوا الإعلان عام 1776 وقّعوا أيضاً الدستور بعد انقضاء 11 سنة. لا تتناقض الوثيقتان بل تكملان إحداهما الأخرى. أعلنت إحداهما أن البلاد تثور لأن الملك جورج الثالث داس بقدميه حقوق المواطنين الإنكليز، بينما وضعت الثانية إطار عمل للحكومة يهدف إلى حماية هذه الحقوق، وبضمنها الحق الأساسي في التملك.

تجدر الملاحظة ان رغم قيام واضعي مواد الدستور بتضمينه حمايات بشأن الملكية، فلم يجعلوا امتلاك عقار شرطاً لتولي مناصب حكومية. المؤهلات الوحيدة التي اشترطها الدستور بشأن عضوية الكونغرس أو تولي منصب الرئاسة هي السن، والإقامة، والمواطنية. وفي حين أن ولايات عديدة في ذلك الوقت كانت تفرض بعض مؤهلات ترتبط بالملكية فيما يخص حق التصويت، فقد وجد البحاثة أنها لم تستثن إلا عددا قليلا من الناس من حق التصويت. ففي مجالات عديدة كان أفراد الشعب إما يملكون ملكية صغيرة ضرورية لحصولهم على حق التصويت أو كانت السلطات المحلية لا تلتزم بهذه القاعدة. فخلال بضعة عقود فقط تمّ اكتساح مؤهلات الملكية المطلوبة من الناخبين في الموجة العظيمة للإصلاح الديمقراطي التي عُرفت باسم عصر جاكسون.

تُصنّف أحكام الدستور بشأن الملكية إلى أربع فئات عامة. صُنّفت في الفئة الأولى القيود المفروضة على صلاحيات الحكومة القومية الجديدة في تقييد حقوق الملكية لكونها تعود إلى الأفراد، كما إلى الولايات. لا يستطيع الكونغرس أن يُصدر "قوانين التجريم"، التي كان يُمنع بموجبها نقل أملاك أفراد حُكم عليهم بجريمة الخيانة العظمى، أو بجرائم أخرى معينة، إلى ورثتهم الطبيعيين، بل كانت تُصادر هذه الأملاك لصالح الحكومة. هدفت أحكام الدستور هذه إلى منع ممارسة نوع المعاملة السيئة الذي انتشر بشكل واسع في إنكلترا حيث كان يُعلن الملوك خيانة إقطاعيين أثرياء بهدف مصادرة كامل عقاراتهم وعقارات أقاربهم المباشرين، أو حيث كان البرلمان يحرم مجموعات أو أفرادا معينين من ملكياتهم من خلال تطبيق "قانون التجريم".

علاوةً على ذلك، لم يكن يحق للكونغرس مَنح معاملة تفضيلية لميناء يقع في إحدى الولايات على ميناء يقع في ولاية أخرى. ومع أنه كان يحق للكونغرس فرض رسوم جمركية على السلع المستوردة إلى البلاد، فلا يجوز له فرض ضرائب على الصادرات، مما يضمن مرة أخرى عدم الإتاحة لجزء معين من البلاد أن يربح أو يخسر في تجارته بسبب السياسات الفدرالية التمييزية. نشأت هذه الأحكام مباشرة من التجربة الاستعمارية، عندما عانت مستوطنات مختلفة بسبب منح البرلمان، استناداً إلى قوانين التجارة، الأفضلية لميناء في مستعمرة على موانئ في مستعمرات أخرى، أو بسبب فرضه ضريبة على الصادرات الخاصة ببعض المستعمرات، وبذلك وضع تلك السلع في مركز غير تنافسي في السوق الإمبراطورية.

عززت الفئة الثانية من الأحكام الواردة في الدستور سيطرة الحكومة الفدرالية في التجارة بين الولايات وفي التجارة الخارجية، وشمل ذلك سلطة واسعة في فرض الضرائب. وفي حين أن هذه السلطات قد تبدو متناقضة مع حقوق الملكية، فإنها كانت بالفعل داعمة لها، حيث أن واضعي الدستور صمموها لتعمل بمثابة كابح للولايات. خلال حقبة الاتحاد الكونفدرالي (1781-1788)، انخرطت الولايات في أحيان كثيرة في حرب اقتصادية ضد بعضها البعض، ووضعت حواجز جمركية ضد السلع القادمة من ولايات مجاورة، أو قدمت رشاوى إلى أصحاب السفن الأجنبية لكي يستعملوا ميناء معيناً بدلاً من ميناء آخر. أحدثت هذه الممارسات فوضى عارمة لدى الشركات التجارية المحلية. لكن أحكام الدستور الجديد ضمنت امتلاك جميع المزارعين والصناعيين لإمكانية الوصول المتساوي إلى الأسواق القومية والأجنبية، وإعفائهم من الرسوم الجمركية التمييزية.

يتمثل مظهر أخر مهم من مظاهر حماية الملكية، بالمادة التي تمنح الكونغرس سلطة "تعزيز تقدم العِلم والفنون المفيدة، من خلال ضمان الحق الحصري للمؤلفين والمخترعين باستغلال كتاباتهم واكتشافاتهم لفترات محدّدة". وكان قد بدأ بالفعل، قبل ذلك ببضع سنوات، تطبيق هذه الحماية، والتي نسميها اليوم الملكية الفكرية. لم يعد بوسع المؤلفين والمخترعين الاميركيين، بعد الانفصال عن إنكلترا، الاعتماد على براءات اختراع وحقوق تأليف أصدرها في السابق التاج البريطاني لمصلحتهم. فرغم العداء الواسع الانتشار للاحتكار ( وهو ردة فعل للسياسات الاستعمارية البريطانية المتعلقة بالشاي وسلع أخرى)، أدرك الأميركيون بأن المؤلفين والمخترعين يحتاجون إلى حماية خاصة. كان ينقص الكونغرس القاري سلطة منح وسائل الحماية هذه، فحثّ الولايات على إصدارها. استجابت ولاية نورث كارولاينا لهذا الطلب بسرعة بإصدارها قانون حماية حقوق التأليف معلنة أن "سلامة الملكية الأدبية يجب أن تتوجه بقوة إلى تشجيع العبقرية." في عام 1784، أصدرت ولاية ساوث كارولاينا قانون تشجيع الفنون والعلوم، وهو القانون العام الأول المتعلق بمنح البراءات في الدولة. ولكن تحت النظام الكونفدرالي لم يكن بمقدور ولاية تجاهل القوانين (بضمنها قوانين البراءات وحقوق التأليف) التي تصدرها ولاية أخرى؛ فضمنت بذلك النهج القومي للموضوع، كما نص عليه الدستور، الحماية التي يحتاج إليها أصحاب الملكيات الفكرية.

ووضعت فئة ثالثة قيوداً على الولايات. فخلال الثمانينات من القرن الثامن عشر، كانت المجالس التشريعية في عدة ولايات قد سنّت، تلبية منها لمطلب شعبي، قوانين تعفي المَدين، أو كانت قد أصدرت عملات ورقية لا قيمة لها ما لبثت وأن فقدت كامل قيمتها. بالإضافة إلى ذلك، كما ذُكر أعلاه، سنّ بعض الولايات قوانين تنص على فرض ضرائب على المستوردات أو الصادرات، إما من دول أجنبية أو ولايات أخرى، مما أعاق بشدة إمكانية استرجاع العافية الاقتصادية بعد الثورة. وهكذا، حُرّم على الولايات بصورة واضحة إصدار عملات، وفَرض ضرائب على المستوردات أو الصادرات، كما مُنعت من إصدار قوانين تجريم. وربما جاءت أقوى حماية للملكية الخاصة في نص الفقرة التي تُحرّم على الولايات إصدار أي قانون "ينتقص من الالتزام التعاقدي." قد تكون هذه العقود على شكل ترتيبات بين الدائن والمدين، أو بين صاحب الملك والمستأجر، أو بين البائع والشاري، أو حتى بين الحكومة وأفراد الشعب. (أكد أحد أشهر الأحكام التي أصدرتها المحكمة العليا في قضية دارتموث كوليج بأن ميثاق تأسيس جامعة خاصة يشكل عقداً، وبعد صدوره لا يحق لأي ولاية أن تنتقص منه). خلال العقود الأولى من حياة الجمهورية الجديدة شكلت فقرة الالتزام التعاقدي أحد أقسام الدستور التي تقاضى الناس بسببها أكثر من أي فقرة أخرى، حيث طبقت المحكمة العليا أحكامها بصراحة على الولايات. لكن فقرة الالتزام التعاقدي لم تولّد سوى القليل من المناقشات خلال مؤتمر فيلادلفيا. فالمندوبون درسوا المشاكل التي سببتها الولايات بهذا الصدد وصمموا على ضمان عدم منحها سلطة التعرض لهذه الفقرة ثانية.

جيمس ماديسون
مجلة الفدرالي، العدد 44
1788

إن قوانين التجريم، والقوانين الرجعية التي توضع بعد حصول المخالفة، والقوانين التي تنتقص من الالتزامات التعاقدية، تخالف كلها المبدأ الأول للعهد الاجتماعي، وكل مبدأ لتشريع سليم .... لذلك، وبصورة صحيحة جداً، أضاف المؤتمر هذا المتراس الدستوري لمصلحة السلامة الشخصية والحقوق الخاصة. وسوف أشعر بأني خُدعت كثيراً فيما لو لم يكن المؤتمر، في عمله هذا، قد استشار بصدق المشاعر الحقيقية للناس بقدر ما استشار المصالح غير المشكوك بأمرها لعناصره المكونة...."
فأعضاء المؤتمر، استنتجوا ضمنياً، و عن حق، أن بعض الإصلاح الوافي لا زال لازماً، وهذا ما سوف يُزيل التخمينات حول التدابير العامة، ويوحي بالحذر والمثابرة العامة، ويؤمن مساراً منتظماً لإدارة شؤون المجتمع.

عالجت الفئة الرابعة من الحمايات شكلاً من الملكية الخاصة لم يعد له وجود في الولايات المتحدة، أي الاسترقاق المنقول. بحلول عام 1787، كان الاسترقاق وطيد الأركان في كافة المستعمرات الجنوبية. أوضح ممثلون عن هذه الولايات أنها قد لا تنضم إلى الاتحاد ما لم تنص مواد الدستور الجديد صراحة على حماية الاسترقاق. وافق المندوبون إلى المؤتمر على معظم مطالب الولايات الجنوبية لمصلحة تكوين الاتحاد. وهكذا أعطى الدستور، كما جرى وضعه بالأصل، للكونغرس سلطة تشريع قوانين تخول اعتقال الرقيق الهاربين، ولكنه لم يعط للكونغرس أي سلطة تخوله التدخل بشؤون تجارة الرقيق المحلية. لم يكن بإمكان أي مندوب في مؤتمر فيلادلفيا، أكان من الولايات الشمالية أو الجنوبية، أن يتوقع كم ستصبح قضية الرق مؤلمة ومفرّقة للبلاد، أو أنها سوف تتخذ شكل حرب أهلية قوضت تقريباً الاتحاد بغية إزالة ما أسماه الجنوبيون "مؤسساتهم الخاصة".

ما لن يُمكن للمرء إيجاده في الدستور الأساسي هو مادة محددة تؤكد علناً جميع حقوق الملكية. لا يعود سبب هذا النقص إلى عدم تثمين الملكية من قبل واضعي مواد الدستور، إذ علينا أن نتذكر في هذا الصدد تعليق جون روتلدج، بأن "الملكية هي بالتأكيد الهدف الرئيسي للمجتمع"، لكنهم اعتقدوا أن حمايتها قد تتأمن من خلال الترتيبات المؤسساتية التي أنشأوها، والمنح الانتقائي للسلطة إلى الحكومة الفدرالية، إضافة إلى القيود الانتقائية المفروضة على سلطة حكومة الولايات وكذلك على سلطة الحكومة الفدرالية. اعتقدوا أن بالإمكان حماية كافة الحريات الفردية، بضمنها حق الملكية، بشكل أمثل من خلال تقييد سلطة الحكومة إلى مدى معين، وكانت النتيجة عدم شمول الدستور الأصلي لقانون حقوق.

لكن خلال الجدال حول التصديق على الدستور، دعت أصوات نافذة إلى إضافة قانون حقوق كهذا. وواقع الأمر أن عدة ولايات ربطت تصديقها على الدستور بالإدخال الفوري لحمايات محددة لحقوق الناس من تدخل الكونغرس. اقترح جيمس ماديسون إدخال بيان موسع يقول: يُقام نظام الحكم، وعليه ممارسة سلطته، بهدف فائدة الناس؛ وهذه تتضمن التمتع بالحياة والحرية، مع حق الحصول على واستخدام الملكية الخاصة، وبوجه عام السعي لتأمين السعادة والأمان". لكن زملاءه في الكونغرس أرادوا إدخال أحكام محددة أكثر. يتضمن قانون الحقوق قسمين في التعديل الخامس يتعلقان مباشرة بالملكية: "لن يُحرم أي فرد من الحياة، أو الحرية، أو الملكية دون تطبيق الإجراءات القانونية، كما لن تصادر أملاك خاصة للاستخدام العام دون دفع تعويض عادل لأصحابها."

تنحدر مباشرة الفقرة المتعلقة بتطبيق الإجراءات القانونية الواردة في التعديل الخامس للدستور بالأصل من مادة "قانون الأرض" في الوثيقة العظمى البريطانية، وتعتبر ربما أهم حماية، ليس لحقوق الملكية فحسب، بل وأيضاً للحريات الفردية المتضمنة في الدستور. لكن هناك أمورا أخرى ترتبط بمبدأ الحماية تتجاوز ما تراه العين. فإذا كان اتباع القواعد القانونية، والتي يستطيع الكونغرس تشريعها، هو كل ما يُطلب من الحكومة، يصبح عندئذ من السهل للحكومة الاعتداء على الحريات الفردية. لكن المحاكم فسرت مادة تطبيق الإجراءات القانونية بأنها لا تشمل فقط الحقوق الإجرائية (الوسائل التي يتوجب على الحكومة اتباعها)، بل وأيضاً الحقوق الموضوعية (الحدود المفروضة على الحكومة بالذات المستمدة من "القانون الطبيعي" والتقاليد القانونية الإنكليزية). التاريخ حافل، لسوء الحظ، بأمثلة عن حكومات فاسدة أو دكتاتورية استغلت التشريع لسرقة ثروة الناس وتقييد حريتهم، مدعية في كل الوقت أن ما تفعله ليس أكثر من تطبيق ما يفرضه القانون. تنص مادة الإجراءات القانونية، بصورة أساسية، على أنه لا يحق للكونغرس أن يسنّ مثل هذه القوانين، لأنها تنتهك الروح التي تنفخ الحياة في التسويات الدستورية برمتها: حماية الحريات الفردية، وبضمنها حقوق الملكية.

تُشكّل فقرة "الاستملاك" في التعديل الخامس أداة إضافية وقوية لحماية الملكية. وافق كل الناس على أن الحكومة قد تضطر في بعض الأحيان لمصادرة أجزاء من عقار خاص لتلبية حاجات عامة أساسية مثل شق الشوارع، والطرق، والاقنية، أو إقامة منشآت عسكرية فدرالية عليها. لكن التعديل الخامس رفض قبول الممارسة التي كانت سائدة في أوروبا آنذاك بالاستيلاء الكامل على الأملاك دون دفع تعويض عنها. كان التاج، في النظام الإقطاعي، يملك نظرياً مجمل الأراضي التي كان تدار على شكل إقطاعيات من قبل "خدام الملك"، وبما أن الحكومة تملك كل الأراضي بموجب هذا النظام، لم تبرز الحاجة على ما يبدو لدفع تعويضات إلى "خدام الملك"، لأنهم أخذوا ما لا يعود إليهم بالفعل. حتى بعد زوال النظام الإقطاعي، ظل المبدأ القائل إن الحكومة تستطيع أن تستولي على أرض دون أن تدفع تعويض عنها هو القاعدة المتبعة. أما في الولايات المتحدة، وبحلول حقبة وضع الدستور، كان الناس يعتقدون بقوة أن الأفراد يملكون بالكامل الأرض التي يعيشون عليها ويعملون فيها. صحيح أن الحكومة كانت تملك مساحات هائلة من الأراضي في منطقة الحدود الغربية، ولكن بموجب القانون الذي أصدره أولاً الكونغرس الكونفدرالي، ومن ثم أُعيد إصداره من قبل الكونغرس الدستوري، فإن الحكومة عندما تبيع الأراضي تفقد كل الحقوق عليها. وفي حال، احتاجت الحكومة لأي سبب كان، للحصول على ملك خاص، كان عليها أن تدفع ثمن ما حصلت عليه.

عضو المحكمة العليا، انطونين سكالبا
في قضية تولان ضد لجنة ساحل كاليفورنيا
1987

القول إن الاستملاك لمرفق عام، عبر أملاك صاحب ارض، لا يشكل مصادرة قسم من ملكية خاصة، بل يُشكل "مجرد تقييد لاستعمالها "، هو بمثابة استخدام للكلمات بطريقة تفرغها من كامل معناها. والواقع أن أحد الاستعمالات الرئيسية لسلطة حق الاستملاك العام هو ضمان قدرة الحكومة في طلب نقل الحق في ملكية، طالما تدفع ثمنها. لقد أكدنا تكرارا، انه فيما يخص الملك الذي يحتفظ به مالكه لاستعماله الخاص، فإن حق استثناء الآخرين هو "أحد العناصر الأساسية في مجموعة الحقوق التي تتميز بها الملكية عامة."

رغم أن فقرات التعديل الخامس كانت تنطبق في ذلك الوقت فقط على الحكومة القومية، فقد أدخلت ولايات عديدة نصوصها في قانون الحقوق لديها. ما على المرء سوى التذكر بأن الولايات المتحدة تخضع لنظام فدرالي، تملك فيه كل من الحكومة القومية وحكومات الولايات سلطات معينة. تبنت ولايات عديدة قوانين حقوق خاصة بها، حتى قبل عام 1791، لكن جميعها تقريبا أضافت إلى، أو عدلت، دساتيرها بحيث تتبنى بنية وحتى كلمات مواد الإجراءات القانونية والاستملاك. عزز تبني الولايات لهذه القوانين المرتبة العالية للملكية الخاصة وللحقوق العائدة لها ضمن البنية الدستورية والقانونية للبلاد. حتى حلول القرن العشرين، كانت الولايات، وليس الحكومة الفدرالية، هي التي تتولى القيادة في تشجيع المشاريع الاقتصادية كبناء الطرق والأقنية. أمنّت الحمايات، التي تضمنتها دساتير الولايات، تقدّم هذه النشاطات مع أخذها بعين الاعتبار لبعض حقوق أصحاب العقارات الفرديين.


جرى خلال القرن التاسع، والعقود الأولى من القرن العشرين، جدال عظيم في الولايات المتحدة حول طبيعة حقوق الملكية، والتوازن الواجب تحقيقه بين حقوق المالكين الخاصين ورجال الأعمال، من جهة، وبين إدارات الشرطة في الولاية، والتي تم الاستعانة بها لتخفيف المظاهر الأشد خشونة لعملية التصنيع. وبالأخص داخل الفرع القضائي، بدا العديد من القضاة وكأنهم يؤمنون بوجهة نظر الفيلسوف لوك كما هي، والتي تؤكد وجوب عدم القيام بأي أمر يُزعج حقوق الفرد في الملكية.

القاضي، جوزيف ستوري، في قضية ويللنسون ضد ليلاند
1829

لا يمكن اعتبار الحكومة حرة ، إن هي تركت حقوق الملكية خاضعة حصراً لإرادة الهيئة التشريعية، دون أي تقييدات. يبدو أن المبادئ الأساسية لحكومة حرة تفرض اعتبار حقوق الحرية الشخصية والملكية الخاصة مقدسة.


كانت نتيجة ذلك قيام المحاكم باستمرار بتقييد محاولات المجالس التشريعية في الولايات، كما الكونغرس، باعتماد تدابير إصلاحية كتلك التي تخص قوانين الأجور، وساعات العمل، وإجراءات سلامة عمال المصانع، وتنظيم الرسوم لخدمات المرافق العامة، وفرض ضرائب تصاعدية على الدخل، وجميع هذه تدابير مشتركة لكافة الدول العصرية. ولم تحقق قوى الإصلاح النصر، في نهاية المطاف، إلا عند حدوث الركود الاقتصادي العظيم في الثلاثينات من القرن العشرين. لم يعني ذلك أن الشعب الأميركي تخلّى عن حقوق الملكية، بل عَنى أن حقوق الملكية أصبحت قيمها متناسبة أكثر ضمن الثورة الأكبر في مجال الحريات الفردية.

ابتداءً من عام 1937، باشرت البلاد ومحاكمها بالتركيز على الحريات الشخصية، وبالأخص على ما تعنيه مادة الحماية المتساوية أمام القانون الواردة في التعديل الرابع عشر. كان ذلك بداية الثورة العظيمة للحقوق المدنية، كما كان بداية التوسع المؤثر لمعنى حقوق مثل حرية التعبير، والصحافة، والمعتقد، وحقوق المتهم، والتي تحدثنا عنها في فصول أخرى من هذا الكتاب. بعكس آراء البعض، التي تؤكد بأن حقوق الملكية تآكلت إلى أن أصبحت غير ذات أهمية، بقي مفهوم حماية الملكية يحتل اهتماما حيوياً في الحياة الأميركية. فإذا لم يعد الأميركيون ينظرون إلى الملكية على أنها "الضامنة لكل حق آخر" ، فلا زالت تلعب دوراً ذا شأن كبير في كيفية نظرتهم لحقوق الناس.

قامت جدالات دامت طويلاً بين المؤرخين حول سبب عدم تطور حركة اشتراكية قوية في الولايات المتحدة، رغم أنه، بصورة إجمالية، أدت الثورة الصناعية في الولايات المتحدة إلى نفس النتيجة الموجعة التي كانت لها في أوروبا الغربية وبريطانيا العظمى. عمل عمال المناجم والمصانع في أميركا تحت ظروف قاسية تُماثل نفس قساوة الظروف التي واجهها نظراؤهم في العالم القديم. فقد عملوا بأجور متدنية كانت بالكاد تسمح للعديد منهم بكسب معيشة هزيلة. ولكن لم يحدث أبداً في الولايات المتحدة ما حصل في إنكلترا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، حيث وحدّ العمال صفوفهم تحت راية اتحادات نقابية قوية تطورت سريعاً لتصبح حركات سياسية فعالة يسارية الميول. وعلى الرغم من ظهور تنظيمات اشتراكية عديدة خلال القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، فلم تبرز إلى الوجود أبداً أي منظمة مسيطرة ربطت سوية بين المطالب العمالية والسلطة السياسية. لم يتمكن الاشتراكيون حتى في ذروة قوتهم في أوائل القرن العشرين، من الحصول على أكثر من مليون صوت في الانتخابات الرئاسية عام 1912، وهو رقم لم يصلوا إليه مطلقاً لاحقاً، حتى خلال السنوات الرهيبة للركود الاقتصادي العظيم.

والتفسير المقبول عموماً، هو أن العمال وأصحاب الأملاك في أجزاء عديدة من العالم القديم نظروا إلى العالم الاقتصادي على انه "لعبة نتيجتها صفر" ، أي بمعنى انه في حال أرادت مجموعة تحسين وضعها في الحياة فلا بد أن يتم ذلك على حساب آخرين. فلكي يصبح أفراد البروليتاريا أصحاب عقارات، يجب نزع العقارات من الذين يسيطرون عليها وإعطاؤها لمن لا يملكون عقارات. ورغم أن المفكرين الاقتصاديين الكلاسيكيين أشاروا دوما إلى عمل الفرد على أنه شكل من أشكال الملكية فالواقع هو أن العامل العادي لم يكن يملك سوى سيطرة ضئيلة جداً على عمله، أو على ظروف عمله، أو أجره.

لكن في الولايات المتحدة، كانت ولا زالت متوفرة مساحة كافية من الأراضي المفتوحة تكفي للسماح لكل فرد يعمل بجهد كبير بأن يصبح صاحب مُلك. في البدء، لم يرغب المزارعون فحسب، بل وأيضاً حرفيون، وحتى عمال غير ماهرين، في أن يصبحوا من أصحاب العقارات. وأيضا خلال القرون الثلاثة الأولى لنشوء البلاد، كمستعمرات بريطانية ومن ثم كدولة مستقلة، كانت هناك مساحات شاسعة من الأراضي المفتوحة غير المملوكة في الغرب مهيأة للاستيطان فيها واستغلالها. شجعت السياسة الحكومية هذه الملكية الفردية من خلال بيع الأراضي الحكومية بأسعار متدنية للغاية، كما من خلال تخصيص مساعدات عقارية ضمن الأراضي المفتوحة إلى خطوط سكك الحديد لبناء خطوط سكك حديدية عبر القارة. وعادت شركات خطوط السكك الحديدية بدورها، فباعت هذه الأراضي بأسعار معتدلة، مما جذب عدداً أكبر من المستوطنين لامتلاك الأرض واستغلال المناطق الجديدة.

لم توجد في الولايات المتحدة أنظمة الطبقات والمراتب الاجتماعية التي بدت أنها تعيق تطور العديد من المجتمعات الأوروبية. فلم تكن هناك أرستقراطية وراثية تسيطر على عقارات كبيرة، كما لم تكن هناك طبقة عمالية يُحدد العرف "مكانها" في أسفل درجات المجتمع. جاء العديد من المستوطنين إلى العالم الجديد خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر للعمل كخدم بموجب عقود استخدام، بحيث وافقوا على العمل في المزارع أو كخدم في المنازل لفترة محددة من السنوات يصبحون بعدها أحراراً. في حالات عديدة، كانت "مستحقات الحرية"، التي تعطى للخادم عند إكماله المدة المنصوص عليها في العقد، تتكون من قطعة أرض، وأدوات زراعية وبزور لبدء حياة جديدة. وفي حين انه لم يصبح جميع الخدم، العاملون بموجب عقود استخدام سابقاً، من أصحاب الأملاك الكبار، إلا أن بعضهم نجح في هذا المضمار وحصل على مزرعته الخاصة وتمتع بالمزايا التي تغنّى بها هكتور دي سان جان كريفكور في عام 1782. ومع أن البلاد تغيرت بصورة دراماتيكية بدءاً من ثمانينات القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا، فقد ظل حلم امتلاك الأرض ثابتاً لدى جميع المجموعات في أميركا. لم يرغب معظم العمال في أن يصبحوا طبقة بروليتارية ذات قوة أكبر تسند حزباً سياسياً اشتراكياً؛ بل أرادوا أن يصبحوا أصحاب شركات تجارية صغيرة، أو حرفيين مستقلين، أو أصحاب عمل يوظفون آخرين لديهم بمقتضى حقهم الخاص، أو أعضاء في طبقة متوسطة كانت تزدهر، وقبل كل شيء آخر، أن يصبحوا من مالكي المساكن والعقارات كالأثرياء.

اليكسيس دي توكفيل
الديمقراطية في أميركا
1832

لم يكن حب اقتناء الملك، في أي بلد من بلدان العالم، عارمًا أو أكثر اندفاعاً مما هو في الولايات المتحدة، وما من مكان آخر في العالم تُظهر فيه غالبية السكان ميلاً أقل إلى اعتناق أي مبدأ قد يهدد، بأي شكل من الأشكال، طريقة اقتناء الأملاك الخاصة.


سمحت الظروف الفريدة للولايات المتحدة بتحقيق المعتقدات التي وصفها توكفيل. فقد بقيت مساحات واسعة من الأرض يمكن بناء مساكن عائلية فردية عليها، حتى بعد أن زالت الحدود بين الولايات في نهاية القرن التاسع عشر. دُهش القادمون إلى الولايات المتحدة، خلال الخمسينات من القرن الماضي، بمنظر التجمعات الواسعة من المساكن العائلية الفردية المتناثرة في الأرياف الأميركية، والتي يقطنها عمال عاديون وموظفون. ما فتئت الملكية، على شكل امتلاك العائلة مسكناً خاصاً، حلماً مستمراً في أذهان الناس في الولايات المتحدة منذ تأسيسها. عزز ودعم الحزبان الديمقراطي والجمهوري هذا الحلم، من خلال تطبيق برامج صممت لتسهيل امتلاك أفراد الشعب للمساكن. وشكلت الملكية في أميركا الأساس الذي بُني عليه مجتمع ديمقراطي مزدهر مكوّن من أفراد الطبقة المتوسطة.

نواجه منذ بداية القرن الواحد والعشرين مجموعة مذهلة من أشكال "الأملاك"، تتراوح بين المادي والمألوف، وبين الواقعي والغريب. لكن بقيت المبادئ الأساسية هي ذاتها،بحيث يتعلق جزء من مهمة المجتمع، والحكومة، وبالأخص المحاكم، بتحديد أساليب التعامل مع الأشكال الجديدة التقليدية والثورية للأملاك. بدّل انفجار ثورة الحقوق، الذي بدأ في الخمسينات من القرن الماضي نظرتنا إلى حق حرية الكلام وحق حرية المعتقد، كما أيضا إلى حق حرية التملّك. فإذا أخذنا مثالاً وحيداً، نلاحظ أن الدولة الحديثة توفر عدداً من الفوائد المادية لمواطنيها، من بينها برامج الرفاه الاجتماعي، والتقاعد عند بلوغ السن القانونية، وتعويضات البطالة، والضمان الصحي. يعتبر كثيرون في زمننا الحالي أن هذه التقديمات شكل من أشكال حقوق الملكية التي يحق للمواطنين التمتع بها بالكامل.

خلال النصف الثاني من القرن العشرين، دفعت حركات حماية الحقوق المدنية والبيئة إلى إصدار قوانين وضعت أعباء كبيرة على المفاهيم التقليدية لحقوق الملكية. لم يعد بإمكان أصحاب المطاعم التمييز بين من مِن الزبائن يمكنهم تقديم الخدمة له أو رفضها. كما اضطر، في أحيان كثيرة، أصحاب المؤسسات التجارية والأملاك الخاصة إلى تحمل كلفة برامج حماية البيئة. أحدثت الأنظمة الحكومية التي أثرت على كافة قطاعات الاقتصاد والمجتمع، تآكلاً إضافياً على المبدأ القديم القائل بأن من حق المالكين التصرف بمؤسساتهم التجارية وممتلكاتهم حسبما يرغبون. دفعت هذه الانتهاكات بعض المعلقين إلى الاتهام بأن حقوق الملكية أودعت في "سلة مهملات قانونية."

قد يكون هناك ما يبرر وجهة النظر هذه، إذاً اعتبر المرء أن حقوق الملكية غير قابلة للانتهاك مطلقاً، وهو شرط لم يندرج أبداً لا في القانون الأميركي ولا في القانون الإنكليزي. وحتى جون لوك نفسه أقرّ بوجود تقييدات هامة على استخدام حق الملكية، رغم انه كان دائماً يمتدح الأهمية الأولى لحق الملكية في ضمان الحقوق الأخرى. وإذا كان قد حدث في إحدى فترات التاريخ الأميركي أن مبدأ الحرية الاقتصادية الكاملة، أو ما يعني بالفرنسية "دع الناس يفعلون ما يشاؤون"، شدد بدرجة كبيرة جداً على حقوق الملكية، فقد حصلت في فترات أخرى تشديدات عليها أقل من ذلك بكثير. قادت المحاكم الفدرالية الطريق، خلال العقدين الأخيرين، في المحاولة لإقامة توازن جديد بين مصادر القلق المشروعة للدولة الحديثة، وكيف تقوم هذه الاهتمامات بالاعتداء على حقوق الملكية.

قاضي المحكمة العليا بول ستيفنز مخالفاً
في قضية دولان ضد مدينة فيجارد
1994

هناك شيء واحد مؤكد في عالمنا المتغير: عدم اليقين، وهو ما يُميز كل التوقعات حول أثر المشروعات الحضرية الجديدة، وحول أخطار الفيضانات، وحول الزلازل الأرضية، وحول ازدحام السير، أو أضرار البيئة. عند وجود شك يتعلق بحجم هذه التأثيرات، تستوجب المصلحة العامة لتجنبها أن تعلو على المصلحة الخاصة[ لأصحاب الأملاك]. فإذا استطاعت الحكومة أن تُبين أن الشروط التي فرضتها، في ترخيصها لاستعمال الأراضي هي عقلانية، وغير متحيّزة، وتقود لتحقيق أهداف خطة سليمة لاستخدام الأراضي، فإن هذه الشروط تقترن بذلك بالافتراض القوي بشرعيتها. وهكذا، يقع بشكل قاطع، على عاتق الطرف الذي يطعن في عمل الدولة، عبء الإثبات بأن هذه الشروط أضعفت القيمة الاقتصادية للعقار بشكل غير معقول.


برزت بعض هذه المسائل بسبب الاهتمام المتزايد حديثاً بالبيئة والإدراك بأن التنمية، رغم فائدتها للاقتصاد، قد يكون لها تأثيرات مؤذية لنوعية الهواء والماء. وضع القانون العام اللوم لتلويث جدول مياه على عاتق المالك الذي أفرغ النفايات فيه. أما اليوم، فلا يمكن، في كثير من الأحيان، تحميل مسؤولية إلحاق الضرر بالهواء أو الماء على فرد واحد، أو على مؤسسة تجارية واحدة. فهذا يُشكل نتيجة نهائية لأعمال أطراف كثيرين، وعلى امتداد عدة سنوات أو حتى عقود. فكيف نستطيع إذاً تحميل المسؤولية بهذا القدر الكبير، غير مسؤولية أكلاف التنظيف؟ ما هو مقدار عقابنا لمصالح الملكية الخاصة، وبالأخص مصالح المالكين الذين قد يكون لهم في أقصى الحالات تأثيراً هامشياً فقط على المشكلة البيئية الأكبر، من خلال تقييد حقوقهم التقليدية في الملكية؟ وكما لاحظ عضو المحكمة العليا هيوغو بلاك قبل سنوات عديدة، "وضعت فقرة المصادرة في الدستور لمنع الحكومة من إجبار بعض الناس بمفردهم على تحمل أعباء، يتوجب بكل عدل وإنصاف أن يتحملها الشعب ككل". شكل هذا جزءا فقط من الجدل الجاري في بداية القرن الواحد والعشرين، وهو ليس أكثر من جزء.
تتخذ الملكية أشكالا عديدة في النظام الاقتصادي الحر، ويكون لكل شكل قيمة خاصة لدى المصالح المختلفة. أظهرت نتائج استطلاعات الرأي أن اكثر من 70 بالمئة من الشعب الأميركي يثمنون بشدة حقوق الملكية الخاصة. والنظرية التقليدية للحقوق المادية في الملكية خدمت جيداً لأكثر من 200 سنة. والتحدي هنا يتمثل في أخذ القيم المتضمنة في ذلك الالتزام وتطبيقها على حالات جديدة، وعلى أشكال جديدة من الملكية، وبطريقة تحمي صاحب الملك كما عامة الناس.

قراءات إضافية

Bruce A. Ackerman, Private Property and the Constitution (New Haven: Yale University Press, 1977).

James W. Ely, Jr., The Guardian of Every Other Right: A Constitutional History of Property Rights (2nd ed., New York: Oxford University Press, 1998).

Forrest McDonald, Novus Ordo Seclorum: The Intellectual Origins of the Constitution (Lawrence: University Press of Kansas, 1985).

Ellen Frankel Paul and Howard Dickman, eds., Liberty, Property, and the Foundations of the American Constitution (Albany: State University of New York Press, 1989).

William B. Scott, In Pursuit of Happiness: American Conceptions of Property from the Seventeenth to the Twentieth Century (Bloomington: Indiana University Press, 1977).


تاريخ النشر: 08 تموز/يوليو 2004 آخر تحديث: