حقوق الأفراد: الحرية الفردية ووثيقة الحقوق
الفصل الثاني عشر: حق الاقتراع
لا يحق للولايات المتحدة أو لأي ولاية أخرى أن تنكر أو تنتقص من حق التصويت لمواطني الولايات المتحدة بسبب العرق، أو اللون، أو وضعهم السابق كرقيق. التعديل الخامس عشر لدستور الولايات المتحدة (1870) لا يحق للولايات المتحدة أو لأي ولاية أخرى أن تنكر أو تنتقص من حق الانتخاب لمواطني الولايات المتحدة بسبب الجنس. التعديل التاسع عشر لدستور الولايات المتحدة (1920) لا يحق للولايات المتحدة أو لأي ولاية أخرى أن تنكر أو تنتقص من حق الانتخاب لمواطني الولايات المتحدة في أي انتخابات تمهيدية حزبية أو انتخابات أخرى بسبب التخلف عن دفع أي ضريبة تصويت أو أي ضريبة أخرى. التعديل الرابع والعشرون لدستور الولايات المتحدة (1964) لا يحق للولايات المتحدة أو لأي ولاية أخرى أن تنكر أو تنتقص من حق الانتخاب لمواطني الولايات المتحدة، الذين بلغوا سن الثامنة عشر وما فوق، بسبب السنّ. التعديل السادس والعشرون لدستور الولايات المتحدة (1971) وصف أبراهام لنكولن الديمقراطية بأفضل وصف إذ قال إنها "حكومة الشعب، من الشعب ومن اجل الشعب". لكن لكي تكون حكومة "من الشعب"، يجب أن يقرر الشعب من سيكون قادتهم. من دون انتخابات حرة ومنصفة، لا يمكن قيام مجتمع ديمقراطي، ومن دون المحاسبة المتواصلة للموظفين الحكوميين من جانب مجموعة الناخبين لا يمكن، في الواقع، قيام أي ضمانة لأية حقوق أخرى. لذلك، يمثل حق التصويت ليس حرية فردية مهمة فحسب بل حجر الأساس لقيام حكومة حرة أيضاً. ظل السؤال حول من يملك حق التصويت مطروحاً باستمرار في التاريخ الأميركي. والموضوع الذي ظل متداولاً عبر الماضي الأميركي هو التوسيع التدريجي لحق الانتخاب، من اقتراع محصور بالبيض الذكور من أصحاب العقارات، إلى حق انتخاب جامع يشمل كل فرد تقريباً يتجاوز سن الثامنة عشر. هناك موضوع آخر ارتبط به يعود لتأمين المساواة الكاملة لكل صوت، إلى الحدّ الذي يُسمح به في ظل نظام فدرالي. ولكن، لأن الأميركيين يعتبرون هذا الحق بدهياً فإنهم لم يمارسوه بالكامل كما يجب. فبوجود 200 مليون مواطن يحق لهم الاقتراع، يعتقد عدد كبير جداً من الناس أن صوتهم الفردي لن يؤثر. لكن تعادل النتائج تقريباً في الانتخابات الرئاسية لعام 2000، أدى إلى تذكير الناخبين بأن كل صوت مؤثر. إلا أنه من الخطأ النظر إلى مسألة توسيع حق الاقتراع على أنها كانت مسألة مسلما بنتائجها أو سلمية. فعلى الرغم من أن الأميركيين كانوا خلال العهد الاستعماري يؤمنون حتماً بالاقتراع الحر، إلا أنهم آمنوا أيضاً بوجوب حصر حق التصويت بالرجال من أصحاب العقارات، والذين توفر لهم ثروتهم تفهماً أكثر لاحتياجات المجتمع. يشكل تاريخ حق التصويت، قصة نزاعات متواصلة، رغم كونه أساسياً في أعمال دولة ديمقراطية وفي حماية الحقوق الفردية. الكسيس دي توكفيل الديمقراطية في أميركا 1835
حالما يبدأ الناس بالتدخل بمؤهلات التصويت، يصبح بإمكان المرء التأكد من انهم سوف يلغون التصويت تماماً، عاجلاً أم آجلاً. هذه هي إحدى أكثر القواعد الثابتة في السلوك الاجتماعي. وكلما توسّعت حدود حقوق التصويت كلما أصبحت الحاجة أقوى لتوسيعها أكثر لأنه بعد كل تسليم بحق جديد تتعزز قوى الديمقراطية، وتزداد طلباتها نتيجة السلطة المتزايدة التي باتت تملكها. يزداد طموح الذين ظلوا تحت الحد اللازم لأهلية التصويت بالتناسب مع عدد الذين اصبحوا فوق هذا الحد. وأخيراً يصبح الاستثناء هو القاعدة؛ تتتابع التنازلات الواحدة تلو الأخرى دون توقف، ولن تكون هناك نقطة للتوقف إلى أن يتم تحقيق حق الاقتراع الشامل. بالرغم من "قاعدة" توكفيل، لم يكن تقدم حق الاقتراع مباشراً أو سهلاً. اندلعت معارك سياسية حادة خلال عهد جاكسون (1820-1840) بغية إلغاء شرط ملكية العقارات. أدت حرب أهلية دموية مزقت البلاد عملياً إلى نصفين إلى منح حق التصويت للرقيق السود سابقاً. وخلال الحرب العالمية الأولى، استغل أنصار منح حق التصويت للنساء دعوة وودرو ويلسون إلى "جعل العالم آمناً للديمقراطية" من أجل دفع قضيتهم قُدماً. بصورة مماثلة، دفعت تضحيات الملونين خلال الحرب العالمية الثانية المحاكم إلى بدء تدمير الحواجز التي أقيمت لإفشال حق اقتراع السود. وبدوره أدى مقتل هذا العدد الكبير من الشبان الأميركيين في فيتنام، خلال الستينات من القرن الماضي، إلى تخفيض السن القانونية للاقتراع إلى 18. وفي زمن أكثر حداثة، يتطلب الأمر دعاوى طويلة في المحاكم الفدرالية لإلغاء إساءة توزيع المجالس التشريعية للولايات، التي حصلت نتيجة التحولات السكانية على امتداد أكثر من قرن، بغية تحقيق مساواة أفضل في الاقتراع في ولايات عديدة. جرت معارك مريرة من أجل تحقيق كل خطوة لتوسيع حق التصويت، ولم يكن الطريق إلى حق الاقتراع الشامل قصيراً ولا سهلاً . رسالة جون آدامز إلى جيمس سوليفإن حول حق الاقتراع 1776 إن نفس الاستنتاج الذي سوف يحثك على قبول جميع الرجال الذين لا يملكون شيئاً كمؤهلين للتصويت، مثلهم مثل الذين يملكون... سوف يبرهن أيضاً أن عليك قبول النساء والأطفال، لأنه، بوجه عام، تتمتع النساء والأطفال بقدرة للحكم على الأمور وبعقول مستقلة تماثل ما للرجال الذين لا عقار يملكونه... أرجو أن تثق، سيدي، بهذا القول. فمن الخطر فتح هذا المصدر الخصب للخلافات والمشاحنات والذي سوف يفتح عند محاولة تغيير مؤهلات الناخبين؛ ولن يكن نهاية له. سوف تبرز مطالبات جديدة؛ سوف تطالب النساء بحق التصويت؛ سوف يعتقد الشباب من سن الثانية عشرة إلى سن الواحدة والعشرين أن حقوقهم لم تُراعى بشكل كافِ، وكل رجل لا يملك سنتاً واحداً سوف يطالب برأي متساو مع أي رجل آخر، في جميع شؤون الدولة. يميل ذلك إلى إرباك وتدمير كافة الامتيازات، وإخضاع كافة الطبقات إلى مستوى واحد عام.
كان رأي آدامز هو الرأي السائد في زمن الثورة الأميركية وعند وضع مواد الدستور، وهو الوثيقة التي لم تتطرق حتى إلى حق الاقتراع. لكن الدولة الأم ومستعمراتها وضعت تقييدات تنص على ملكية عقار عند التصويت استناداً إلى افتراضين. الأول، أن الرجال من أصحاب الأملاك، بالأخص الأراضي، لهم "مصلحة" في المحافظة على المجتمع والحكومة بغية حماية ثرواتهم. وثانيا، لا يملك إلا أصحاب العقارات "الاستقلالية" في تقرير الأمور السياسية المهمة واختيار أعضاء المجلس التشريعي الذين سوف يناقشون ويتخذون قراراتهم حول هذه الأمور. كتب القائد العسكري والمنظّر السياسي الإنكليزي هنري ايروتون، ان أساس الحرية هو "أن يكون الذين يختارون صانعي القوانين من الرجال المتحررين من الاعتماد على غيرهم". وبالنسبة لأفراد الطبقتين العليا والمتوسطة، يتحقق هذا الاستقلال فقط بفضل امتلاك عقار. قاد مفهوم "الاستقلال" إلى استثناء النساء (اللواتي كن يعتمدن على أزواجهن)، والشباب (الذين كانوا يعتمدون على والديهم)، والرقيق والخدم (الذين كانوا يعتمدون على أسيادهم)، والأجراء (الذين كانوا يعتمدون على عملهم المؤقت لمعيشتهم). علاوةً على ذلك، حرمت بعض المستعمرات الكاثوليك واليهود، كما الهنود من حق الاقتراع. فيما عدا ذلك، اختلفت المعايير حول كمّ العقارات التي على المرء أن يمتلكها ليحق له التصويت، وليس فقط بين مستعمرة وأخرى، بل ضمن كل مستعمرة، من الريف إلى المدن. فقد يملك سكان المدن عقارات أقل من أولاد عمومتهم سكان الأرياف، ولكن لديهم ممتلكات شخصية أخرى أكثر بكثير. بالإجمال، يُقدّر المؤرخون أنه في زمن الثورة الأميركية، ربما بلغت نسبة الذكور البالغين البيض الذين يحق لهم الاقتراع ثلاثة من كل خمسة، وهو رقم أعلى مما كان في بريطانيا العظمى، لكنه يبقى قليلاً نسبياً. إلا أنه، كان للثورة تأثير ديمقراطي أعظم بكثير مما توقعه العديد من أنصارها. فإذا أخذ المرء جدياً صيحة الحرب القائلة "لا ضرائب دون تمثيل"، وهي عبارة انتشرت بعد عمليات الشغب اعتراضاً على ضريبة الطابع عام 1765، يرى أن كثيرين من دافعي الضرائب حُرموا من حق الاقتراع. كانوا إما لا يملكون عقاراً ولكنهم كانوا يدفعون الضرائب على السلع التي يشترونها، أو أن ملكيتهم لم تلبّ القدر الأدنى المطلوب للتصويت. أعلن كاتب في صحيفة ماريلاند غازيت عام 1776: "أن الهدف النهائي لكافة الحريات هو التمتع بحق الاقتراع الحر". فإذا كان هذا صحيحاً، يكون ثمانية من أصل كل عشرة مستوطنين قد حُرموا فعلاً من حريتهم. لم يذهب هذا المنطق سدى لدى المستوطنين المتمردين. فمع أن آدامز وغيره من القادة المحافظين أرادوا الإبقاء على حق الاقتراع المحدود، فقد أدى التمرد ضد الحكم الاستبدادي للملك إلى اندلاع تمرد مماثل ضد حدود الملكية التي تؤهل الفرد للتصويت. طُبّقت صيحة الحرب "لا ضرائب دون تمثيل" على المجلس التشريعي للولاية، أو على المجلس البلدي المحلي، كما على الملك والبرلمان. لن يقاتل الرجال من أجل الاستقلال إذا كان ذلك لن يؤدي إلا إلى قيام نظام لا ديمقراطي يحل محل نظام لا ديمقراطي آخر. أعلن المواطنون في غرب مستعمرة مساتشوستش إبان اشتعال الثورة أنه "لا يمكن أن يلتزم رجل بقانون لم يوافق عليه بنفسه أو عبر ممثله القانوني." كانت النتيجة أن فكرة مؤهلات الملكية تراجعت، على الأقل في بعض المناطق، لتحل محلها المؤهلات الضريبية. إذا كان الناس يدفعون ضرائب، فيجب أن يتمكنوا من التصويت، حيث أنهم من خلال الانتخابات يستطيعون منع الحكومة من إساءة استعمال سلطاتها ومن حرمانهم من حريتهم. وكانت الحصيلة أنه في حين توسع بالتأكيد نطاق حق الاقتراع بعد الثورة إلا أنه ظل بعيداً عن أن يُصبح شاملاً، واستمرت مؤهلات الملكية، إما على شكل امتلاك فعلي لعقار أو لأملاك خاصة شخصية، أو مؤهلات ضريبية دنيا، في تقييد حق التصويت على مدى السنوات الخمسين التالية. ولكن هل منح امتلاك العقار للرجال حكمة اعظم؟ هل استند حب الحرية أو الحكم الجيد حول الشؤون العامة إلى ثروة الفرد؟ لم يقتنع بذلك بنجامين فرانكلين، الذي لربما يعتبر من أشد المتمسكين بالديمقراطية في المؤتمرات التي وضعت إعلان الاستقلال عام 1776 والدستور عام 1787، بأن هذا هو الحال، حتماً. تعليق بنجامين فرانكلين حول حق الاقتراع رجل يملك اليوم حماراً ثمنه خمسون دولاراً وبذلك يحق له الاقتراع؛ ولكن قبل موعد الانتخابات التالية يموت الحمار. أصبح الرجل في هذه الأثناء أكثر خبرة، وأصبحت معرفته بمبادئ الحكم، واطلاعه على شؤون البشرية أكثر شمولاً، ولذلك أصبح أفضل أهلية للقيام باختيار صحيح للحكام -- لكن الحمار مات ولا يستطيع أن يقترع. الآن، يا سادتي، أرجوكم أن تفيدوني إلى من يعود حق الانتخاب؟ إلى الرجل أم إلى الحمار؟ سوف يُذكر تعليق فرانكلين مراراً وتكراراً خلال النصف القرن التالي، مع ازدياد حدة المعارك الهادفة لتوسيع نطاق حق الاقتراع في كل ولاية (ابتداء من تأسيس الدولة وحتى اندلاع الحرب الأهلية، كانت الولاية تفرض متطلبات الاقتراع. وحتى اليوم، وعلى الرغم من وجود عدة أحكام دستورية، وقوانين فدرالية حول حقوق الاقتراع، تبقى لدى الولايات المسؤولية الأولية في إدارة شؤون الانتخابات). ألغيت مؤهلات الملكية تدريجياً في ولاية تلو أخرى بحيث ألغت، بحلول عام 1850، جميع الولايات هذه المؤهلات. وبحلول عام 1855، تم التخلي أيضا عن مؤهل دفع الضرائب، وبذلك لم يبق سوى عدد قليل من الحواجز الاقتصادية، مما يمنع الذكور البالغين البيض من التصويت.
قدم البحاثة عدة أسباب لهذا التطور. أشاروا إلى الإصلاحات الديمقراطية خلال عهد جاكسون التي ألغت العديد من الامتيازات الاقتصادية. كما أن توسع الاتحاد باتجاه الغرب خلق ولايات لم يكن فيها سوى القليل من الثروات، وسيطرت عليها روح المساواة التي كانت سائدة في الولايات الحدودية. أما في الولايات الأقدم، فقد أوجد نمو الصناعة والمدن طبقة عمالية كبيرة طالبت بالمشاركة في العملية السياسية، حتى ولو كان أفرادها لا يملكون أرضاً أو أملاكاً شخصية مهمة. حتى في الولايات الجنوبية، حيث كان أصحاب العقارات لا يزالون يملكون نفوذاً قوياً، أدى نمو الطبقة المتوسطة والطبقة العاملة في المدن إلى المطالبة بأن يكون الاقتراع محرراً من مؤهلات الملكية. التمس مواطنو مدينة ريتشموند، بولاية فرجينيا، من المؤتمر الدستوري للولاية في عام 1829، إلغاء مؤهل الملكية، وأشاروا في التماسهم إلى أنه في حالة احتياج الولاية للحماية ضد جيوش أجنبية غازية، كما حدث في الماضي، فلن يُمارس أي تمييز بين الذين يملكون والذين لا يملكون أرضاً. نص مذكرة الذين لا يملكون أرضاً حرة في مدينة ريتشموند 1829 يخلق شرط ملكية الأرض تمييزاً بغيضاً بين أفراد نفس المجتمع؛ وهو يسرق كل مشاركة، في سنّ القوانين، من جزء كبير من المواطنين الملتزمين بهذه القوانين، والذين رهنوا دماءهم وثرواتهم للمحافظة عليها، ويمنح إلى طبقة مفضلة أعلى كافة الامتيازات، ليس تقديراً لخدماتها العامة بل بفضل أملاكها الخاصة... وعندما دقّت ساعة الخطر لم يضعوا تمييزات بغيضة بين أبناء فرجينيا. لم تخضع لوائح المجندين إلى أي تدقيق، ولم تُقارن مع السجلات العقارية بهدف محو أولئك الذين شُطبت أسماؤهم من صفوف الرجال الأحرار. فإذا تم بصورة مخزية استثناء الذين لا يملكون عقاراً من صناديق الاقتراع، في زمن السلم، فقد كانت تمت دعوتهم بكرم على الأقل، في زمن الحرب، للالتحاق بساحة القتال. ربما كانت أعظم القوى المساندة لتوسع حق الاقتراع هي بروز أحزاب سياسية منظمة طرحت مرشحين لمناصب في الدولة يناصرون وجهة نظر سياسية معيّنة. خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، حشد الحزب الديمقراطي، بقيادة أتباع اندرو جاكسون، الناخبين في المدن، وقاد المعركة لتوسيع حق الاقتراع والتخلص من مؤهلات الملكية. ربما كانت المعارضة، حزب الويغز أو المحافظين، تفضل الإبقاء على حق الاقتراع محدوداً، ولكنها انضمت إلى الحزب الديمقراطي إدراكاً منها أنها تخوض معركة خاسرة، وبذلك أُمِلت بالحصول على بعض التقدير، كما على أصوات الذين أصبح يحق لهم الآن الإدلاء بأصواتهم بحرية. وإذا كان، بحلول الخمسينات من القرن التاسع عشر، قد أصبح يحق للذكور البيض الذين تتجاوز أعمارهم 21 سنة الاقتراع، بقيت مجموعتان كبيرتان مستثنيتين من العملية السياسية، هما الأفريقيون الأميركيون والنساء. رأي مندوب إلى المؤتمر الدستوري بولاية انديانا 1850 استناداً إلى فهمنا العام لحق الانتخاب الشامل، ليس لدي أي اعتراض... ولكن إذا كانت نية مقدم اقتراح توسيع حق الاقتراع بحيث يشمل النساء والزنوج، فإنا ضده. إني أفهم الكلمات التي قول، "جميع الذكور البيض الذين تجاوزا سن الواحدة والعشرين"، على أنها مقياس الحق في الاقتراع الشامل. كان وضع الرقيق السود في الجنوب محدداً بشكل كامل في القانون، بحيث لم يملكوا أي حقوق تستحق الذكر، وطبعاً لا حقوق إطلاقاً في الانتخابات. لم يتمكن من الاقتراع حتى الرقيق المحررون، من الأفريقيين الأميركيين، أكانوا قاطنين في الشمال أو في الجنوب. كان القانون ينظر إلى النساء، بالرغم من إصدار بعض التشريعات الإصلاحية التي سمحت لهن بامتلاك عقارات والمقاضاة أمام المحاكم، على أنهن تابعات لأزواجهن أو آبائهن، وهكذا غير مؤهلات للإدلاء بأصواتهن. تطلّب إلغاء نظام الرق في الولايات الجنوبية نشوب حرب أهلية. وكجزء من جهود منح الرقيق السابقين وضعاً قانونياً وحقاً في المساواة أدخلت البلاد ثلاثة تعديلات على الدستور. ألغى التعديل الثالث عشر نظام الرق بالكامل كمؤسسة؛ وجعل التعديل الرابع عشر للمرة الأولى من المواطنية ميزة قومية، ومنحها لكافة الأفراد المولودين في الولايات المتحدة أو الحاصلين على جنسيتها؛ ومنع التعديل الخامس عشر أي ولاية من إنكار حق الاقتراع استناداً إلى العرق. ولكن، للأسف، سرعان ما تلاشى وعد الإعتاق بعد أن وضعت ولاية إثر أخرى ليس عقبات إجرائية أو قانونية لابعاد السود عن صناديق الاقتراع فحسب، بل وأيضاً من خلال إصدار قوانين تمييز عنصري أنزلتهم إلى منزلة دنيا بصورة دائمة. ولم يصبح واضحاً، إلا عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، عندما حاربت الجيوش الأميركية من السود والبيض لإيقاع الهزيمة بالفاشيين، إن من غير الممكن للفرد أن يحارب من أجل حقوق شعوب أخرى خارج الوطن بينما أُنكرت عليه نفس هذه الحقوق في بلده، أميركا، بسبب لون بشرته. في منتصف الحرب، نظرت المحكمة العليا في قضية تتحدّى نظام الانتخابات الأولية الحزبية المقتصرة على البيض، وهي القاعدة التي كانت متبعة في الولايات الجنوبية. في الانتخابات الأولية لحزب معين، يختار أعضاء الحزب من سيكون مرشحو الحزب في الانتخابات العامة التي تُجرى في تشرين الثاني/نوفمبر. ابتداءً من ثمانينات القرن التاسع عشر وحتى ستينات القرن العشرين كان كل من يفوز في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في معظم ولايات الجنوب يضمن لنفسه الفوز في الانتخابات العامة، نظراً لضعف الحزب الجمهوري الكبير في الجنوب. مع أن الانتخابات التمهيدية الحزبية شكلت جزءاً مهماً، بل ربما أهم جزء في عملية الانتخابات، فقد استمرت الولايات الجنوبية بالدفاع عن تصورها الواهم بأن الأحزاب السياسية منظمات خاصة وبالتالي يحق لها استثناء السود من عضويتها وحرمانهم من حق الاقتراع في الانتخابات الأولية. في عام 1944، أبطلت المحكمة العليا هذا الوهم وباشرت بتطبيق عملية مكّنت الأفريقيين الأميركيين من المطالبة بحقهم المشروع في التصويت. قاضي المحكمة العليا ستانلي ريد في قضية سميث ضد أولرايت 1944 عندما تصبح الانتخابات التمهيدية الحزبية جزءاً من آلية اختيار المسؤولين، في الولاية والدولة، كما أًصبحت هنا، يجب تطبيق الاختبارات نفسها لتحديد صفة التمييز أو الاقتصار على الانتخابات الأولية الحزبية، كما هي الحال في الانتخابات العامة... إن الولايات المتحدة دولة ديموقراطية دستورية؛ يَمنح قانونها الأساسي لجميع المواطنين حق المشاركة في اختيار المسؤولين المنتخبين دون تقييد تفرضه أي ولاية بسبب العرق. ولا يحق لأي ولاية إبطال هذا العطاء للشعب الذي يمنحهم فرصة الاختيار من خلال صياغة شكل العملية الانتخابية فيها بشكل يسمح لمنظمة خاصة بأن تمارس التمييز العرقي (أو العنصري) في الانتخابات. قد تصبح الحقوق الدستورية بلا قيمة تذكر في حال أمكن إنكارها بصورة غير مباشرة على هذا الشكل.
لم تكن قد انتهت بعد معركة تحقيق المساواة للسود، وخلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين قامت الحركة العظيمة للحقوق المدنية التي قادها مارتن لوثر كنغ جونيور، وكذلك القاضي ثورغود مارشال، وغيرهم، بتوجيه انتقادات شديدة إلى التمييز العنصري في المحاكم وفي قاعات الكونغرس. وكانت النتائج، من حيث حق التصويت، إصدار التعديل الرابع والعشرين للدستور عام 1964، الذي ألغى ضريبة الاقتراع (التي كانت تفرض على الناس دفع ضريبة للحصول على حق الاقتراع، وبالتالي منعت العديد من الفقراء، بالأخص السود، من الاقتراع)، ومن ثم إصدار قانون حقوق الاقتراع لعام 1965 الذي شكل نقطة تحول. فلأول مرة خلال 100 عام أصبح من الممكن تطبيق تعديلات الدستور لإعادة إعمار الجنوب بعد الحرب الأهلية، ولم يعد القانون يستهدف الممارسات التي تستثني السود من عملية الاقتراع، بل وأعطى أيضاً للحكومة الفدرالية سلطة تطبيق القانون على جميع المستويات. لا يمكن التقليل من أهمية قانون حقوق الاقتراع الشامل، ليس لأنه نجح في تمكين الإفريقيين الاميركيين من الاقتراع وحسب، بل لأنه أضفى أيضاً الصفة القومية على نواحي عديدة من حق الاقتراع. تؤدي الولايات، في النظام الفدرالي، العديد من وظائف الدولة التي تقوم بها الحكومة القومية في دول أخرى. وكما أشير إليه أعلاه، كان التصويت، ولا يزال في معظم جوانبه، خاضعاً لقوانين الولايات. وظلت الولايات حتى عام 1870 تقرر جميع الشروط اللازمة للاقتراع. وفي تلك السنة، منع التعديل الخامس عشر، حسب ما كان مفترضاً فيه، الولايات من إنكار حق الاقتراع بسبب العرق. وفي تعديلات لاحقة توسع حق الاقتراع ليشمل النساء والذين بلغوا سن الثامنة عشر، وألغيت ضريبة الاقتراع. لكن قانون حقوق الاقتراع ذهب إلى أبعد من ذلك. ففي الولايات التي تمارس نمطاً واضحاً من التمييز، تولّى المسؤولون الفدراليون الإشراف على عمليات تسجيل الناخبين والتصويت، مما ضمن عدم منع أفراد الاقليات من الإدلاء بأصواتهم. لا زالت بعض الولايات مقيدة بأحكام قانون حقوق الاقتراع لعام 1965 مع أنه تم إعادة معظم الأعمال اليومية في آلية الانتخابات إلى سيطرة الولايات. لكن في حين لا زالت الولايات تُدير الانتخابات، أصبح من الواجب عليها أن تفعل ذلك وفق المعايير والإجراءات القومية. إعلان مؤتمر سينيكا فولز 1848 نؤمن بأن هذه الحقائق بديهية: إن جميع الرجال والنساء خُلقوا متساوين... إن تاريخ البشرية هو تاريخ الإيذاء والاغتصاب المتكرر للمرأة على يد الرجل، و يُقصد منه مباشرة بسط الطغيان المطلق عليها. لم يسمح لها الرجل أبداً بممارسة حقها بالتصويت الانتخابي الذي لا تنازل عنه. أجبرها على الخضوع للقوانين، التي لم يكن لها خيار في صوغها بعد أن حرمها من حقها الأول بالمواطنية، أي حق التصويت في الانتخاب، وبهذا تركها دون تمثيل في مؤسسات التشريع، اضطهدها من كافة النواحي. لم يتضح متى بدأت النساء سعيهن للحصول على حق الانتخاب، وما من أدّلة تُشير إلى أن النساء اقترعن فعلاً من حين لآخر في بعض الولايات بعد الثورة. تُعزى عادةً بداية التحركات الجدية للمطالبة بحق الانتخاب الشامل، الذي يضم النساء، إلى مؤتمر سينيكا فولز عام 1848، الذي نقل بجلاء قسماً كبيراً من نص إعلان الاستقلال ثم استبدل أعمال الملك جورج الثالث تجاه المستعمرات الأميركية، بخطايا الرجال ضد النساء. لم تتمكن الحركة الإصلاحية خلال الخمسينات من القرن التاسع عشر سوى دعم جهد رئيسي واحد تمثل بإلغاء الرق، الذي لعبت فيه النساء دوراً رئيسياً. لكن، عندما منح الكونغرس الرقيق السابقين حق التصويت شعرت النساء بالخيانة، ولأن الولايات استمرت في السيطرة على عملية الانتخابات بدأت النساء محاولاتهن للتأثير على أعضاء المجالس التشريعية في الولايات من أجل كسب تأييدهم لإقرار الحق بالاقتراع. منحت مقاطعة وايومنغ النساء حق التصويت في عام 1869، ولكن بحلول عام 1900 كانت أربع ولايات فقط قد منحت النساء الحقوق السياسية الكاملة. استمدت الحركة قوة جديدة خلال الفترة التقدمية، أي العقدين بين عام 1897 وعام 1917، اللذين اختمر خلالهما الإصلاح، وطالب أنصار حق الاقتراع الشامل بإصدار تعديل دستوري ينص على ذلك. إثر دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى إعلاناً منها لإنقاذ الديموقراطية، فرضت الحكمة السياسية عدم إرسال أميركيين للمحاربة والموت من أجل مثال أعلى خارج الوطن بينما ينكر هذا المثال الأعلى على نصف عدد السكان فيها. صادق الرئيس وودرو ويلسون على إصدار هذا التعديل، بعد أن كان يعارضه في الأصل، ووافق الكونغرس على التعديل الدستوري في حزيران/يونيو 1919. صادقت عليه 36 ولاية-العدد اللازم لإقرار التعديل المقترح- خلال أقل من سنة، في الوقت المناسب لاقتراع النساء في الانتخابات الرئاسية عام 1920. بعد أن ضمن القانون الأميركي حق الاقتراع لكل راشد، تمثل الإنجاز العظيم الآخر في منتصف القرن العشرين بالتأكيد على أن لصوت كل فرد أثرا أو وزنا، ليس وفق المفهوم المجرد لعدد الأصوات فحسب، بل تناسبياً أيضاً مع كيفية اقتراع غيره من الأفراد في الولاية. ينص الدستور بجلاء أن تتمثل كل ولاية بشيخين في مجلس الشيوخ، وأن يتناسب عدد نواب كل ولاية في مجلس النواب مع نسبة عدد سكان الولاية من العدد الإجمالي لسكان الولايات المتحدة، حسب ما تحدد ذلك عملية إحصاء السكان التي تُجرى كل عشر سنوات. ولكن لا توجد إرشادات حول كيفية تخصيص هؤلاء النواب داخل كل ولاية. كان جيمس ماديسون قد ألمح ضمنياً، زمن كتابة الدستور الأميركي، إلى وجوب أن يكون هذا التنظيم منصفاً، بحيث يكون لكل صوت نفس الأثر تقريباً لصوت جاره في كل من انتخابات الولاية والانتخابات الفدرالية. أعادت بعض الولايات بصورة منتظمة رسم حدود مقاطعاتها الانتخابية لعضوية الكونغرس (الانتخابات الفدرالية)، كما مقاطعاتها الانتخابية لمجلس النواب في الولاية بغية تأمين مساواة تقريبية على الأقل بين المقترعين. كما أن ثلاثة أخماس الولايات أجرت بانتظام إعادة تخصيص المقاعد في أحد أو كلا المجلسين التشريعيين فيها. لكن على الرغم من حدوث تحولات سكانية رئيسية، فبحلول الخمسينات من القرن الماضي، لم تكن 12 ولاية قد أعادت رسم حدود مقاطعاتها الانتخابية لمدة تزيد عن ثلاثة عقود. أدى ذلك إلى نشوء اختلافات شديدة في قيمة الصوت الانتخابي الفردي. فمثلاً، في ولاية فيرمونت الصغيرة، بينما بلغ عدد الناخبين في المقاطعة ذات الأعلى كثافة سكانية 33 ألف ناخب، وبينما بلغ عدد الناخبين في المقاطعة ذات الأدنى كثافة سكانية 238 ناخباً، ورغم ذلك كانت كل مقاطعة من هاتين المقاطعتين تنتخب نائباً واحداً يمثلها في مجلس نواب الولاية. في ولاية كاليفورنيا، ضمت مقاطعة لوس أنجلس لانتخابات مجلس شيوخ الولاية ستة ملايين ناخب، وفي جزء ريفي من الولاية ذي كثافة سكانية ضئيلة بلغ عدد الناخبين 14 ألف ناخب فقط. أدت تشويهات كهذه إلى التقليص الهائل لقيمة أصوات الناخبين في المدن والضواحي ورفعت من قيمة أصوات الناخبين في المناطق الريفية الأقدم. وبالطبع، لم يكن لدى النواب الريفيين المسيطرين على حكومة الولاية حافز لإعادة تخصيص أو توزيع المقاعد، لان ذلك يعني تنازلهم عن سلطاتهم. بعد أن عجزوا عن تأمين التغيير من داخل المجالس التشريعية بالذات استدارت مجموعات الإصلاحيين نحو المحاكم، مستشهدين بالضمانة الدستورية التي تؤمن "الشكّل الجمهوري للحكم" (المادة الرابعة، القسم الرابع). لكن المحكمة العليا رفضت الدخول في هذه المسألة، حيث أنها كانت تتجنب تقليدياً القضايا التي تتعلق بتوزيع المقاعد التشريعية على اعتبار أنها مسائل "سياسية" تقع خارج نطاق سلطات المحاكم. لكن في آذار/مارس 1962، قبلت المحكمة النظر في قضية رفعها الناخبون في المناطق الحضرية في ولاية تينيسي، حيث لم تُنجز أي عملية لإعادة رسم حدود المقاطعات الانتخابية منذ عام 1901، مع أن دستور الولاية يفرض إعادة التخصيص كل عشر سنوات. أدى واقع موافقة المحكمة النظر بمثل هذه القضايا إلى قيام مجالس تشريعية عديدة بإعادة رسم حدود المقاطعات أو الدوائر الانتخابية بصورة اختيارية. رفع الإصلاحيون في أماكن أخرى عشرات القضايا لدى محاكم الولايات أو المحاكم الفدرالية لرسم حدود هذه الدوائر وإعادة توزيع المقاعد فيها. لكن حسب نظام الولايات المتحدة فدرالي، وحتى يومنا الحاضر، فإن الأصوات في ولاية ما لا تحمل الوزن نفسه الذي تحمله الأصوات في ولايات أخرى في الانتخابات الرئاسية. بموجب النظام الأميركي، تملك كل ولاية عدداً معيناً من الأصوات في الهيئة الانتخابية، وهي هيئة تجتمع مرة كل أربع سنوات للإدلاء بأصواتها، حسب ما تفرضه الانتخابات الشعبية العامة، لمنصب رئيس البلاد. تملك ولاية رود أيلاند الصغيرة جداً ثلاثة أصوات في الهيئة الانتخابية، وهذا يعادل نائبها الواحد وشيخيها الاثنين، والصوت الواحد فيها أكبر نسبياً، على أساس الفرد الواحد، من الصوت في ولايات أكبر مثل كاليفورنيا ونيويورك. برزت قضايا أخرى في النظام الفدرالي. فهل يُمكن للولايات اتباع نظام مؤلف من مجلسين تشريعيين حيث يُمثل أحد المجلسين وحدة جغرافية معيّنة، كالمقاطعات مثلاً، بنفس الطريقة التي يمثل فيها مجلس الشيوخ الفدرالي الولايات؟ هل يحق لولاية الأخذ بتقسيمات تاريخية معيّنة كعامل مؤثر في رسم حدود الدوائر الانتخابية؟ ما هي المعايير التي قد تطبقها المحكمة العليا بهذا المجال؟ في الواقع أثبت المعيار الذي تبنّته المحكمة العليا في قضية غراي ضد ساندرز (1963) انه واضح جداً وسهل التطبيق- فرد واحد، صوت واحد- بحيث أنه لم يزود الإرشادات اللازمة للقضاء فحسب، بل واجتذب الخيال الشعبي أيضاً. بدت جميع الصيغ الأخرى لهذه المسألة كأنها تحرض مجموعة ضد أخرى- الريف ضد المدن، أو المستوطن القديم ضد الوافدين الجدد- إلا أن مبدأ "فرد واحد، صوت واحد" له وقع ديموقراطي. من يمكنه الاعتراض على طمأنة كل فرد بأن صوته يتساوى مع أصوات غيره؟ فدعم هذه الصيغة شكل دعماً للديموقراطية والدستور. وتبدو أي معارضة لها وضيعة وسخيفة. وخلال وقت قصير نسبياً أعادت جميع الولايات تخصيص مقاطعاتها الانتخابية لمجالس الولاية، كما للكونغرس الفدرالي بطريقة منصفة. رئيس المحكمة العليا، ايرل وارن في قضية رينولدز ضد سيمز 1964 بقدر ما ينتقص من حق المواطن في التصويت، بقدر ما تقل قيمته كمواطن. لا يمكن جعل وزن صوت أي مواطن يعتمد على المكان الذي يعيش فيه... ولا تزيد أو تنقص قيمة أي مواطن، أي مقترع مؤهل، لكونه يقطن مدينة أو مزرعة. هذا هو الأمر الواضح والقوي لفقرة الحماية المتساوية في دستورنا... لن يُعتبر لا التاريخ وحده، ولا المصالح الاقتصادية أو غيرها من المجموعات، من مصالح العوامل المسموح الأخذ بها في محاولة تبرير التفاوتات في التمثيل المستند إلى عدد السكان... فالمواطنون هم الذين يقترعون، وليس الأرض أو الأشجار أو المراعي. وطالما بقي شكل حكومتنا تمثيلياً، وطالما بقي المشرعون لدينا أدوات الحكم المنتخبون مباشرة من الشعب ويمثلونه، يبقى حق انتخاب المشرّعين بطريقة حرة ودون عوائق الأساس الوطيد لنظامنا السياسي. قد يظن المرء انه مع إلغاء مؤهل الملكية وضرائب الاقتراع، إن النصر قد تحقق في معركة منح حق التصويت للملونين، والنساء، والبالغين سن الثامنة عشرة. ولكن كما لاحظنا في أحيان كثيرة، تُشكّل الديمقراطية عملية تتغير باستمرار كما يتغير تحديدنا للحقوق الفردية في نظام ديمقراطي. هناك فرق كبير في كيف كان المواطن الأميركي يمارس حق الانتخاب في العشرينات من القرن التاسع عشر وكيف يمارس هذا الحق في بداية القرن الواحد والعشرين. علاوة على ذلك، ليست المسألة قضية أبطال مؤيدين للديموقراطية يريدون توسيع حق الانتخاب بينما يريد الشياطين المناهضون للديموقراطية تضييق هذا الحق. عبر كامل التاريخ الأميركي خشي الناس، الذين يقال إنهم الأفضل نوعاً، من حكم الرعاع؛ وهو موضوع تكرر ذكره في جميع كتابات جيل المؤسسين. نجد شكلاً مختلفاً لهذا الخوف بين صفوف الذين يرغبون في "تطهير" العملية الانتخابية. في أحيان كثيرة تهاجم الجهود الرامية إلى تسهيل عملية التسجيل الانتخابي على أنها تدعو إلى إدخال الفساد في العملية. امتدح البعض تخفيف شروط معرفة القراءة والكتابة، وتوسيع حقوق الانتخاب لتشمل مواطنين لا يتحدثون أو يقرأون باللغة الإنكليزية، على أنها نصر للديمقراطية، فيما هاجمها آخرون ممن كانوا يخشون من احتمال تلاعب السياسيين الغوغائيين بالناس الذين لا يملكون معرفة ذات شأن بهذه القضايا. إلا أن الواقع الملفت أنه على الرغم مما قمنا به لتوسيع نطاق حق التصويت، بقيت النسبة المئوية من الاميركيين الذين يدلون بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية، وغيرها من الانتخابات، تمثل إحدى أدنى النسب في الدول الصناعية. فمثلاً، في الانتخابات الرئاسية عام 2000، صوتت نسبة تقل عن 50 بالمئة من مجموع الناخبين المؤهلين. يختلف البحاثة حول سبب هبوط هذه النسبة من نسبة عالية في أواخر القرن التاسع عشر، بلغت بانتظام 85 بالمئة أو أكثر من مجموع الناخبين المؤهلين. يعلل بعض المؤرخين هبوط هذه النسبة بالهبوط المقابل في أهمية الأحزاب السياسية في الحياة اليومية لدى الناس. ويعتقد آخرون أن نمو مجموعات أصحاب المصالح المتمولين دفع الناس إلى فقد الاهتمام بالانتخابات التي تجري معاركها بصورة أولية عبر التلفزيون واعلانات الصحف. ولدى سؤال الذين امتنعوا عن التصويت عن سبب امتناعهم تراوحت أجوبتهم بشكل واسع. كان منهم من لم يعتقد أن صوته بمفرده يمكن أن يُحدث أي فرق، ومنهم لم يعتقد أن القضايا المطروحة تؤثر عليه، ومنهم لم يهتم بكل بساطة بالأمر، وهذه التعليقات محزنة إذا أخذنا في عين الاعتبار الجهود الطويلة للحركة التاريخية من أجل إقرار حق الاقتراع الشامل في الولايات المتحدة. ولا زالت هناك أسئلة إجرائية وتقنية قائمة في ما خص قضية الانتخابات. ففي الانتخابات الرئاسية عام 2000 ألغى المسؤولون الرسميون عن الانتخابات في ولاية فلوريدا حوالي 50 ألف صوت بسبب عدم التثقيب الصحيح لبطاقات التصويت بحيث لم يكن واضحاً لمن صوّت الناخب. في تلك الحال، وبسبب النظام المتقادم المعروف بالهيئة الانتخابية، تعلقت نتيجة الانتخابات بكاملها على أقل من بضع مئات من الأصوات أُدليت في تلك الولاية. توجّه الديموقراطيون والجمهوريون فوراً إلى المحكمة للاعتراض على الإجراءات، وفي نهاية المطاف قررت المحكمة إعطاء فلوريدا، والانتخابات، لجورج دبليو بوش. في هذه القضية، وليس للمرة الأولى، أنتجت الهيئة الانتخابية رئيساً لم يحصل سوى على فرق ضئيل من أصوات مجموع الناخبين على مستوى البلاد. يدرك الأميركيون جيداً هيكلية الهيئة الانتخابية. فهي ليست أحد المظاهر الأكثر فعالية أو الأكثر عقلانية للديموقراطية الأميركية. فهي اثر قديم لزمن لم تكن فيه ثقة بقدرة الشعب على انتخاب رئيس بشكل مباشر. لكن نظام الهيئة الانتخابية في وقتنا الحاضر يعتبر مفيداً بالنسبة لضمان مكانه للولايات الصغيرة ضمن النظام الفدرالي، وفي الحقيقة يبقى احتمال إصلاحه ضئيلاً للغاية. حجبت مشاكل عد أصوات الناخبين التي ترافقت مع انتخابات عام 2000 بعض القضايا الأخرى المهمة جداً. أراد الجانبان إجراء عد منصف للأصوات، وأرادا احتساب كل صوت أدلي به بصورة قانونية، ومعلّم بشكل صحيح، ولكنهما اختلفا حول المعايير الفنية التي يجب اتباعها لتحديد هذه المسائل. على الرغم من الاحتجاجات في وسائل الإعلام بأن الولاية ميّزت ضد الاقليات في طريقة تناولها للمسألة، لكن في الواقع، كانت معظم الأصوات التي أُلغيت لناخبين بيض متقدمين في السن من الطبقة المتوسطة، وكان معظمهم مرتبكين بالنسبة لكيفية تعليم بطاقات الانتخاب. لم يُشر أي كان، لا في ذلك الحين ولا الآن، بأن ذلك كان حيلة لإلغاء عشرات الآلاف من الأصوات؛ ولم يدرك أي كان إلى أن بدأ العد الفعلي للأصوات بأن النظام بعيد عن الكمال. وخلال الجلسة التالية لمجلسها التشريعي أدخلت ولاية فلوريدا إصلاحات لضمان عدم حدوث كارثة كهذه مرة أخرى. إن انتخابا كهذا، لا يفوز فيه المرشح الذي حصل على غالبية أصوات الناس، نادر الحدوث في الولايات المتحدة، وهو إشارة تدل على إيمان الشعب بالإجراءات المعتادة لعملية الانتخاب في الولايات المتحدة. قَبِل الشعب بسهولة فوز جورج دبليو بوش. لم تحدث اضطرابات في الشوارع ولم تقم متاريس فيها. قَبِل المرشح الديموقراطي آل غور قرار المحكمة العليا بالنسبة لطريقة عد الأصوات. ولكن تذكر العديد من الناس، بسبب التعادل التقريبي للأصوات في الانتخابات الرئاسية لعام 2000، بأن للصوت الفردي وزنا. كان من الممكن أن تؤدي كسور عشرية من نسبة مئوية في ست ولايات إلى تغيير نتيجة التصويت لصالح الجانب الآخر بسهولة. ربما، كنتيجة لذلك، لن يَعتبر الأميركيون في المستقبل حق التصويت المهم هذا على أنه بديهي بهذا القدر، فهو حق يكمن في جوهر مفهوم "موافقة المحكومين" على من يحكمونهم. قراءات إضافية Marchette Gaylord Chute, The First Liberty: A History of the Right to Vote in America, 1619-1850 (New York: Dutton, 1969). Linda K. Kerber, No Constitutional Right to be Ladies: Women and the Obligations of Citizenship (New York: Hill & Wang, 1998). Alexander Keyssar, The Right to Vote: The Contested History of Democracy in the United States (New York: Basic Books, 2000). Donald W. Rogers, ed., Voting and the Spirit of American Democracy (Urbana: University of Illinois Press, 1992). Charles L. Zelden, Voting Rights on Trial (Santa Barbara: ABC-CLIO, 2002).
تاريخ النشر:
08 تموز/يوليو 2004 آخر تحديث:
|