حقوق الأفراد: الحرية الفردية ووثيقة الحقوق

الفصل العاشر: العقوبة القاسية أو غير الاعتيادية

العقوبة القاسية أو غير الاعتيادية

لن تفرض كفالة مفرطة، ولن تُفرض غرامات مُفرطة،
ولن تُنزل عقوبات مفرطة في قسوتها أو غير اعتيادية

- التعديل الثامن لدستور الولايات المتحدة


يستغرب بعض الناس شمول قانون الحقوق الأصلي لهذا العدد الكبير من الضمانات المتعلقة بحماية المتهمين بارتكاب جرائم. يفرض التعديل الرابع إصدار مذكرات للتفتيش أو إلتوقيف؛ ويفرض التعديل الخامس إصدار إدانة من هيئة محلفين كبرى، ويمنع تعريض المتهمين خلال تنفيذ التدابير القانونية لخطر مزدوج، ويحميهم من تقديم شهادة ضد أنفسهم ويؤمن لهم تطبيق الإجراءات القانونية الصحيحة خلال محاكمتهم. يضمن التعديل السادس حق المحاكمة من قبل هيئة محلفين، وحق معرفة التهم، ومواجهة الشهود، والحصول على مساعدة محام. يضمن التعديل الثامن أنه، حتى ولو تبين أن المتهم مذنب بعد محاكمة منصفة، على العقوبة أن تكون متناسبة مع الجريمة. لا يجوز تغريم فرد بدفع مليون دولار لمخالفة سير، ولا أن تُقطع يده لتزويره شيكاً، أو إعدامه لممارسة ألعاب القمار غير القانونية. وهنا أيضاً يجب احترام الحقوق الممنوحة حتى للمدانين بارتكاب جريمة كي يؤمن المجتمع الديمقراطي بنظام العدالة الجنائية. ولا يجوز إفساد هذا النظام بتحويله إلى وسيلة للقمع السياسي. هذا هو الهدف المثالي، وفي حال تخلّف الواقع في بعض الأحيان عن تحقيق المثال، فإن الحمايات المنصوص عليها في قانون الحقوق تبقى هامة بمثابة علامة اهتداء لما يجب أن يسعى لتحقيقه مجتمع ديمقراطي.


سفر اللاويين، 24: 17-20

ومن يضرب أي رجل ضربة مميتة سوف يُعدم بالتأكيد... وإذا شوّه رجل جسد جاره، فسوف يعاقب بنفس ما فعله: كسر بكسر، عين بعين، سن بسن، وحسب ما أحدثه من تشويه في رجل سوف ينفّذ عليه.
____________________________________

مع أن هذا المقطع من العهد القديم للتوراة، كما مقاطع مماثلة من القرآن، تبدو على أنها تسمح بعقوبة مفرطة في قسوتها، فالواقع أنها جاءت بالفعل بما كان آنذاك فكرة جديدة حول العقاب، أي مبدأ التناسبية. يجب معاقبة المجرم بطريقة تتناسب مع الجريمة التي ارتكبها، عين بعين؛ وليس عين، وذراع، وساق مقابل عين. ورغم ما نراه اليوم من أن هذه الفكرة تُمثل رأيا فطريا سليما، فإن قبول هذا المبدأ بالكامل في أوروبا تأخر قروناً عديدة. لجأت الحكومات الملكية بتكرار، من الأزمان القديمة حتى عصر التنوير في القرن الثامن عشر، إلى تطبيق أشكال رهيبة من العقوبة، تتكون من التعذيب المخيف، والموت البطيء والمؤلم بإفراط، عقوبات لا تتناسب على الإطلاق مع الجرائم المرتكبة. كان هناك ما يزيد عن 200 نوع من الجرائم يعرّض مرتكبيها إلى عقوبة الإعدام في بريطانيا حتى القرن الثامن عشر، تألفت غالبيتها العظمى من جرائم ضد الممتلكات، كالسرقات الصغيرة، أو قطع شجرة، أو سرقة أرانب من حظائرها.

يرتعب المنطق المعاصر عند مطالعة قائمة العقوبات التي كانت تطبق على مرتكبي الجرائم. في أثينا القديمة، فرضت الشرائع الدراكونية الصادرة في القرن السابع قبل الميلاد، عقوبة الموت عن كل جريمة تُرتكب. وبعد انقضاء قرنين، فرض القانون الروماني، المعروف بالألواح الاثني عشر، الإعدام كعقوبة لجرائم مثل حصاد محاصيل مزارع آخر، والحنث باليمين، أو القيام بأعمال شغب خلال الليل في مدينة. ابتكر الرومان مجموعة متنوعة من طرق تنفيذ عقوبة الإعدام، تشمل الصلب، والإغراق في البحر، ودفن المجرم حياً، والضرب حتى الموت، والتعليق على خازوق. كان مرتكب جريمة قتل أحد والديه يوضع داخل كيس مع كلب، وديك، وأفعى، وقرد ثم يغمر في الماء إلى أن يموت.

وخلال القرون الوسطى رافق التعذيب في أحيان كثيرة عقوبة الإعدام. احتفظ البارونات الإنكليز في قصورهم بحفر لإغراق المجرم، ومشانق لشنقه، وكانوا يطبقون كلا العقوبتين للجنح الثانوية كما للجرائم الرئيسية. كانت النساء المتهمات بالخيانة العظمى يُحرَقن أحياء، بينما يشنق الخونة من الرجال، وتقطع أوصالهم ثم تنزع أحشاؤهم وهم أحياء. كانت توضع أثقال ثقيلة على صدور المتهمين الذين لا يعترفون بالتهم الموجهة ضدهم. كان الجلاد يعطي الضحية في اليوم الأول كمية ضئيلة من الخبز وفي اليوم الثاني كمية ضئيلة من الماء القذر، وهكذا، إلى أن يعترف المتهم أو يقضي نحبه. في عام 1531 صادق التاج البريطاني على السلق بالماء الغالي حتى الموت كوسيلة مناسبة للإعدام. نُفذت كافة الإعدامات تقريباً في مكان عام كمشهد شعبي، وكطريقة لتعليم درس مفاده أن مخالفة القانون تؤدي إلى نتائج رهيبة.

أمر الإعدام الصادر بحق ديفيد
أمير ويلز
1283

يجب أن يُجر إلى المشنقة كخائن للملك الذي جعله فارساً، وأن يُشنق كقاتل للسيد الذي أخذه في قلعة هواردن، و أن تحرق أوصاله لأنه جدّف بفعل القتل على جلال آلام المسيح، وأن تُنثر أرباعه عبر البلاد لأنه فكر في أماكن عديدة بموت سيده الملك.
____________________________________

فرض القانون الإنكليزي، علاوة على الإعدام، مجموعة متنوعة من العقوبات أقل قسوة شملت الوسم، وقطع الأذن، أو النفي إلى مستعمرة عقابية. بالإضافة إلى ذلك، لم تشعر سلطات التاج بوخز ضمير كبير بسبب الوسائل التي استعملتها لاستجواب المشتبه بهم. فضل الكثيرون الاعتراف بجريمة لم يرتكبوها مطلقاً على تحمل دقيقة أخرى من التعذيب على المخلعة (أداة تعذيب قديمة يُمط عليها الجسم).

جلب المستوطنون في العالم الجديد معهم مجموعة القوانين الإنكليزية، لكن النقص في اليد العاملة في المستعمرات فرض إجراء تخفيض بالغ في تطبيق عقوبة الإعدام، بالأخص لجرائم ثانوية. كان الأشخاص القادرون على العمل أثمن من أن يُفقدوا بسبب مخالفات صغيرة مثل سرقة أرانب. فمثلاً، ألغى البيوريتان في ولاية مساتشوسيتس عقوبة الإعدام لأي نوع من السرقات، وأعلنوا في مجموعة حريات مساتشوسيتس (1641) انه "بالنسبة للعقوبات الجسدية لن نسمح بين صفوفنا بتطبيق عقوبات لا إنسانية، أو بربرية، أو وحشية."

عند اندلاع الثورة الأميركية كان لدى معظم المستعمرات قوانين تفرض عقوبة الإعدام لجرائم الحرق المتعمد للمباني، والقرصنة، والخيانة العظمى، والقتل، واللواط، والسطو على المنازل، والسرقة، والاغتصاب، وسرقة الخيول، وعصيان العبد، والتزييف، على أن يكون الشنق الأسلوب الاعتيادي للإعدام. كان لدى بعض المستعمرات قوانين جنائية أشد قساوة، ولكن في جميع هذه المستعمرات يبدو أن السجلات تشير إلى انه رغم إمكانية معاقبة جريمة معينة بالإعدام فقد فرض القضاة والمحلفون عقوبة الإعدام فقط في قضايا الجرائم الأكثر شناعة.
رغم بقاء الجَلد بالسوط، والتغطيس في الماء، وعمود العار (كان المجرمون يربطون بعمود في مكان عام ويعرضون لسخرية الناس) كعقوبات رئيسية في عدة مستعمرات، فقد اختفت بسرعة من أميركا الأشكال المرعبة أكثر للتعذيب والعقاب. عَكَس ذلك حركات الإصلاحيين في الدولة الأم (بريطانيا) التي بدأت تُثير الرأي العام ضد الوحشية التي يمارسها النظام. جرت مناقشات رئيسية حول ما يُشكل عقوبة وحشية وغير اعتيادية في زمن الثورة، وتوسّعت المناقشات بعد إقرار أحكام الدستور ومواد قانون الحقوق . كان هذا النقاش، من نواح عديدة، بمثابة نذير عن قيام خلاف حديث حول ما إذا كانت تُعتبر عقوبة الإعدام وحشية وغير اعتيادية.

يُكرر التعديل الثامن، كلمة بكلمة تقريباً، نفس المنع المتضمن في المادة العاشرة من قانون الحقوق الإنكليزي لعام 1689، والذي أدخله جورج ماديسون إلى قانون الحقوق لولاية فرجينيا (1776)، وضمّه مؤتمر الكونفدرالية الى القانون التشريعي للشمال الغربي الصادر عام 1787. برزت اعتراضات في ولايات عدة، خلال مناقشة مواد الدستور، بسبب عدم تغطية الوثيقة الجديدة بدرجة كافية لمسألة حماية الحريات الفردية.

في ولاية مساتشوسيتس، لاحظ أحد المندوبين في مؤتمر المصادقة بأن الدستور أخفق في فرض قيود على أساليب العقاب بحيث يمكن، ونظرياً، استعمال المخلعة والمشنقة بصورة قانونية. وفي ولاية فرجينيا، خشيَ باتريك هنري من إمكانية استعمال أساليب التعذيب. ومع أن كلا الرجلين جادلا بالفعل لتبني قانون حقوق أوسع شمولاً، رأى كلاهما أيضاً ضرورة تأمين حماية ضد الأعمال الوحشية التي كانت شائعة بدرجة كبيرة في التاريخ الإنكليزي.

عضو المحكمة العليا تورغود مارشال
في قضية فورمان ضد فرجينيا
1972
بغض النظر عما إذا كان التحريم المنصوص عليه في قانون الحقوق الإنكليزي ضد العقوبات الوحشية وغير الاعتيادية يعتبر رداً على العقوبات المفرطة أو غير القانونية، وردة فعل تجاه أساليب العقاب الهمجية المستهجنة، أو كلا الأمرين معاً، فما من شك على الإطلاق بأن آباءنا المؤسسين قصدوا تحريم التعذيب، وغيره من العقوبات الوحشية، من خلال استعارة لغة قانون الحقوق وإدخالها في نص التعديل الثامن.
____________________________________

شمل النقاش حول العقوبات الوحشية وغير الاعتيادية أيضاً جدلاً حول ما إذا كان من الضروري تحريم عقوبة الإعدام. كانت كتابات فلاسفة أوروبيين، مثل إيمانويل كانت معروفة جيداً في الولايات المتحدة، وكان لإعادة تشديده على المبدأ التوراتي القديم في تناسبية العقاب مع الجريمة قدر كبير من الأهمية. وكذلك كانت على نفس القدر من الأهمية كتابات مصلحين كالإيطالي سيزار بيكاريا، الذي عارض عقوبة الإعدام. آمن بيكاريا بأن القساوة الشديدة للقانون تجعل المجرمين "يرتكبون جرائم إضافية لتجنب العقوبة على جريمة واحدة." فعلى سبيل المثال، إذا كانت جريمة بسيطة كسرقة دجاجة قد تقود إلى عقوبة قاسية، فمن المحتمل أن يلجأ سارق الدجاجة إلى عنف أعظم خلال تجنبه إلقاء القبض عليه لكي يفلت من تلك العقوبة.

ارتفعت في ذلك الوقت أصوات رجال مهمين يؤيدون إلغاء عقوبة الإعدام. أكد بعضهم أن نجاح الجمهورية الجديدة يجب أن يعتمد على فضيلة مواطنيها وليس على خوفهم من قانون جنائي قاس، اعتبره عديدون بأنه السمة المميزة للاستبداد. أعلن بنجامين روش، أحد الموقعين على إعلان الاستقلال، بأن "عقوبة الإعدام نِتاج طبيعي للحكومات الملكية." وحتى الكزاندر هاميلتون، المحافظ اعتقد أن "فكرة الوحشية تثير الاشمئزاز"، وأن عقوبة الإعدام تُقوّض القيم الجمهورية والسلوك الجمهوري.

لم يجر الكثير من النقاش خلال الكونغرس الأول تحت الدستور الأميركي في عام 1789 حول التحريم المقترح للعقوبة الوحشية وغير الاعتيادية، وأدلى صموئيل ليفرمور من ولاية نيوهامشاير بالتعليق الموسع الوحيد:

تعليق النائب صموئيل ليفرمور حول
العقوبة الوحشية وغير الاعتيادية
1789

تبدو المادة على أنها تُعبّر عن قَدر كبير من الإنسانية، والتي لا اعتراض لي عليها لهذا السبب. ولكن بما أنها على ما يبدو خالية من أي معنى فلا أعتقد أنها ضرورية... لا يجوز فرض أي عقوبة وحشية أو غير اعتيادية؛ لكن قد يصبح من الضروري في بعض الأحيان شنق رجل، و في بعض الأحيان يستحق الأوغاد الجلد بالسوط وربما قطع آذانهم، ولكن هل سوف نُمنع في المستقبل من فرض هذه العقوبات لكونها وحشية؟ إذا كان من الممكن ابتكار أسلوب أكثر تسامحاً لتصحيح الرذيلة وردع الآخرين عن ارتكابها قد يكون تبني المجلس التشريعي لهذا الأسلوب عملاً حكيماً جداً. لكن إلى أن نحصل على بعض الضمان بأن ذلك سوف يتحقق، يجب أن لا نتقيد عن سن قوانين جديدة لازمة من خلال أي بيان من هذا النوع.
____________________________________

يجب فهم تعليقات ليفرمور ضمن سياق هذا النقاش. فهو لم يعارض، نظرياً، فرض عقوبات أكثر إنسانية، بل كان في الواقع مهتماً بمعرفة مدى فعاليتها. شدّد بعمله هذا على المبدأ القائل إن المجتمع يتغيّر وكذلك تتغير المعايير الأخلاقية. اعتُبر الجرّ والتقطيع إلى أرباع، في حقبة معينة، عقوبة مناسبة للخيانة العظمى، وكون هذه العقوبات وحشية وتسبب العذاب الرهيب جعلها ملائمة أكثر في أذهان الناس كعقوبة تُفرض على أخطر جريمة تُرتكب ضد الحكومة. في أميركا القرن الثامن عشر كان ليفرمور يُمثل أقلية، لأنه كان يفضل الوثوق من عدم فرض المجلس التشريعي عقوبات لا إنسانية، مع احتفاظه بحق استعمال أي وسيلة أخرى قد تكون مناسبة لمنع الجريمة ومعاقبتها. لكن الغالبية في المجلس التشريعي أيّدت وضع قيود على الحكومة. لم يكن لدى واضعي قانون الحقوق، كما لدى عدد كبير من المواطنين من ذلك الجيل المؤسس، ثقة عظيمة بالحكومة وأدركوا على أساس تجربتهم المباشرة كيف يُمكن للسلطة أن تتصرف إذا كانت غير مقيدة.

بعكس أجزاء أخرى من قانون الحقوق، أصدرت المحكمة العليا عدداً صغيراً نسبياً من الأحكام المرتبطة بقانون الدعاوى حول موضوع "العقوبة الوحشية وغير الاعتيادية". لم يُشكل التعذيب أبداً جزءاً من العقوبة المسموح بها في الولايات المتحدة، ولم يتطرق إلا القليل من التعليقات لموضوع لجوء السلطات المحلية إلى التعذيب الجسدي في محاولتها الحصول على اعترافات. كانت هناك بعض القضايا العرضية حول ما يُشكل كفالة أو غرامات باهظة ولكن لا يوجد أي اختبار "ينير الطريق" حول الموضوع. بدلاً من ذلك، أشارت المحكمة العليا إلى أن هذا الأمر يعتبر مسألة رأي من الأفضل أن يُترك للمحاكم الابتدائية، وفي حال شعر متهم بأنه مظلوم يستطيع الاستئناف لتخفيف الظلم الذي لحق به.

تَمَحور الجدل، على المستوى الشعبي وفي المحاكم، حول ما إذا كان من الضروري إلغاء عقوبة الإعدام لكونها تنتهك مواد التعديل الثامن. التزاماً منها بنص هذا التعديل، تطرقت المحكمة العليا في القضايا الأولى التي نظرت فيها إلى أسلوب تنفيذ الحكم وليس إلى العقوبة نفسها. في عام 1878، أيدت المحكمة أسلوب استخدام فرقة الإعدام رمياً بالرصاص كوسيلة لإعدام السجناء ووافقت، بعد أكثر من عقد بقليل، على استعمال الكرسي الكهربائي الذي أدخل كوسيلة إنسانية لإعدام المجرم. وبعد قرن واحد، لم تسمع المحكمة أي اعتراضات على وسيلة الحقن بمادة مميتة، كشكل مقبول للإعدام "الإنساني". قالت المحكمة، في الجوهر، بأنه طالما بقيت عقوبة الإعدام سارية المفعول فإنها سوف تترك للولايات أمر تقرير وسائل تنفيذها شرط عدم استعمال التعذيب أو أية أساليب وحشية واضحة أو غير اعتيادية. انخرطت المحكمة، بتردد كبير، في السبعينات من القرن العشرين في الجدل حول إلغاء عقوبة الإعدام، والظاهر أنها قد تنخرط من جديد فيه بعد أن احتل الجدل الجاري دوراً بارزاً في مناقشات السياسة العامة.

خلال العقدين الأولين من القرن العشرين، قلّصت الولايات المتحدة عدد الجرائم الفدرالية التي يمكن معاقبتها بالإعدام، وألغت عدة ولايات عقوبة الإعدام بالكامل. وعندها تلكأت حركة المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام حتى أوائل الستينات من القرن العشرين عندما أثار الجدل حول عقوبة الإعدام اهتمام البلاد مرة أخرى. استمدت حركة المطالبة الجديدة بإلغاء عقوبة الإعدام قوتها، وبجزء منها، من الانتصارات التي تحققت في دول أخرى نتيجة إلغاء عقوبة الإعدام فيها.

بمرور وقت قصير على انتهاء الحرب العالمية الثانية، شجّع المصلحون إلغاء عقوبة الإعدام كهدف على الدول المتمدنة أن تسعى إليه عند وضع مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948. ألغى عدد قليل من الدول الأوروبية، كالنروج، عقوبة الإعدام ووافقت دول أخر على وجوب فرض تقييدات معينة على تنفيذها. وعلى مر السنين وقّع عدد من الدول اتفاقيات متعددة الاطراف منعت تطبيق هذه العقوبة على القاصرين، والنساء الحوامل، والكهول، كما قلّصت عدد الجرائم التي يمكن فرض عقوبة الإعدام على مرتكبيها.

في نهاية المطاف، تم إعداد ثلاث معاهدات دولية هدفت إلى الإلغاء التام لعقوبة الإعدام، واحدة عام 1983 والاثنتين الأخرتين بعد ست سنوات، وصادقت اكثر من 50 دولة على هذه البروتوكولات. بعد مرور نصف قرن على إصدار محكمة نورنبرع أحكاماً بالموت على عدد من المسؤولين النازيين، أصبح القانون الدولي يمنع إصدار عقوبة الإعدام في القضايا المتعلقة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. كان إلغاء عقوبة الإعدام أولى القوانين التي صادقت عليها البرلمانات المنتخبة ديمقراطياً في دول عديدة، بعد أن تخلصت من نير الاستبداد نظراً لأنه تحت الحكومات الديكتاتورية السابقة شكلت عقوبة الإعدام وسيلة هامة لإخضاع السكان.

لم توقّع الولايات المتحدة على هذه البروتوكولات لعدة أسباب. أحدهما، الواقع البسيط أن المحكمة العليا لا تعتبر عقوبة الإعدام بحد ذاتها انتهاكاً للتحريم المفروض في التعديل الثامن بشأن العقوبة الوحشية وغير الاعتيادية. لذلك، تُرك أمر فرض عقوبة الإعدام إلى الكونغرس وأمر تحديد الجرائم المصنفة جرائم فدرالية، وتُرك للولايات الخمسين ومقاطعة كولومبيا أمر الجرائم التي تقع تحت سلطاتها القضائية. لا زالت عقوبة الإعدام تُنفذ في ثلاثة أرباع العدد الإجمالي من الولايات، ولا تطبق في بقية الولايات.

كثيرا ما يصعب فهم هذا المظهر للحكم الفدرالي من جانب دول تفرض برلماناتها تطبيق القانون الجنائي على البلاد بأكملها. لكن بموجب القانون الفدرالي للولايات المتحدة، تُترك الحرية لكل ولاية حرية فرض القانون الخاص بها، علا على المناطق حيث نجح الكونغرس في جعلها خاضعة للسلطة القضائية الفدرالية، شرط التزامها بالقيود لتي نص عليها الدستور.

قد يكون غياب الإجماع لدى المجتمع الأميركي حول ملاءمة عقوبة الإعدام أهم سبب في استمرار تطبيق هذه العقوبة في الولايات المتحدة. فقد جرت مناقشات بين جانب يود إلغاء عقوبة الإعدام بشكل تام، وبين الذين يعتقدون أن هذه العقوبة أمر حسن يتوجب اللجوء إليها بوتيرة أكبر. من الممكن أن يكون موقف غالبية الشعب الأميركي بين هذين القطبين، إذ يزعج الناس في أن تتورط الدولة في عملية قتل، وتقلق في نفس الوقت، من عدم غياب هذه العقوبة التي لا يمكن بدونها ردع مرتكبي الجرائم الشائنة. عرض المدعي العام السابق لولاية فلوريدا، روبرت أل. شيغين، هذا الرأي بصورة جيدة، عندما قال "ان القدرة البشرية على الإحساس والرحمة تجعل من عقوبة الإعدام مأساة كما أن القدرة البشرية على الشر والضلال تجعل عقوبة الإعدام ضرورية."

تعود معارضة تطبيق عقوبة الإعدام لأسباب متنوعة. يعتقد البعض أن قتل البشر عمل لا إنساني، ووفق هذا الرأي، فاللازم هو سجن مرتكبي الجرائم، ومنعهم من إلحاق الأذى بالآخرين، وليس إعدامهم لان الحياة مقدسة حتى حياة مجرم مدان. ان العمل اللاأخلاقي المتمثل بعقوبة الإعدام، يدفع بعض الناس إلى معارضة تطبيقها، أكثر مما يدفعهم إلى ذلك أي سبب آخر.

يشمل سبب ثان الطبيعة الحاسمة لعقوبة الإعدام والخشية من إعدام أبرياء. أعلن جون فورتسكيو، رئيس المحكمة العليا في إنكلترا، قبل أكثر من خمسة قرون: "من الأفضل كثيراً إفلات عشرين مجرماً، من عقوبة الحكم بالإعدام على شخص بريء. إذا أودع بريء السجن ثم تم اكتشاف خطأ ذلك فمن الممكن لهذا الإنسان أن يخرج طليقاً. ورغم عدم إمكانية تعويض الوقت الذي أمضاه في السجن، فعلى الأقل يبقى حياً ويستطيع التمتع ببقية سنوات حياته. أما إذا نفذ حكم الإعدام بهذا الإنسان فلا يوجد سبيل لإصلاح الخطأ.

ويتمثل سبب ثالث بافتراض عبثية عقوبة الإعدام مقارنة بأي معيار عادي للعقوبات، باستثناء حالة واحدة. يؤكد معارضو عقوبة الإعدام بأنها لا تخدم كرادع لان الذين يرتكبون جرائم تُعاقب بالإعدام نادراً، إن لم يكن أبداً، ما يفكرون بالنتائج عند ارتكاب الجريمة. يعتقد القاتل المحترف دون رحمة أن بإمكانه الإفلات من جريمته، ولا يقلق حول العقوبة. فالزوجة المظلومة، عندما تكتشف أن زوجها يخونها يُجن جنونها وتريد أخذ ثأرها منه، ولكنها في حمى انفعالها لا تفكر بالنتائج التي قد تترتب عليها أفعالها.

استناداً إلى معارضي عقوبة الإعدام، يُشكل الاقتصاص هدفها الوحيد، أي الانتقام الذي يفرضه المجتمع على الذين ينتهكون حدود السلوك الاجتماعي. لا ينكرون ضرورة وجود عقاب، ولكن يجب أن يكون هذا العقاب متحضراً، أما إعدام إنسان بناء على أساس الانتقام فهو عمل همجي، حسب رأيهم. ويجدون في النص التوراتية، "الانتقام يعود لي قال الرب"، دعماً دينياً لموقفهم.

ويتمثل سبب رابع بأن فرض عقوبة الإعدام لا يجري بإنصاف. فالمحلفون يترددون في فرض عقوبة الإعدام على النساء، حتى ولو ثبت ارتكابهن جريمة قتل عقوبتها الإعدام. يؤكد أنصار الحقوق المدنية أن من المحتمل، في الجرائم التي يتهم بارتكابها أميركيون سود أو أفراد من أقليات أخرى، أن يتم فرض عقوبة الإعدام بنسبة مئوية أعلى بكثير فيما لو كان المتهمون من البيض.

يجادل أنصار عقوبة الإعدام عكس ذلك. يقولون، انه قبل كل شيء آخر، يجب أن تكون العقوبة متناسبة مع الجريمة، وفي حال قضى أحدهم على حياة إنسان آخر عمداً وعن معرفة تكون عقوبة الإعدام الحد الأدنى لما يطلبه المجتمع، لأنه من غير الإنصاف السماح لقاتل أن يعيش بقية أيامه في السجن بينما تكون ضحيته في القبر.

والأمر الثاني، هو كون بعض الجرائم ذات طبيعة شائنة إلى حد أنه لا يمكن إراحة ضمائر عموم الناس دون إنزال عقوبة الإعدام بمرتكبيها. قد يقول مؤيدو عقوبة الإعدام انه عندما يُعذب قاتل أو يَغتصب ضحيته بطريقة رهيبة جداً يفقد هذا المجرم أي حق أخلاقي، وتماماً كما علينا التخلص من حيوان مسعور، وبالتالي نزيل خطره على المجتمع، كذلك علينا أن "نتخلص" إلى الأبد من مجرمين معينين.

يتمثل الأمر الثالث بالاعتقاد أن عقوبة الإعدام يُمكن أن تُشكل رادعاً. يقرّ أنصار عقوبة الإعدام بأن هذه العقوبة لن تردع قاتلاً محترفاً أو شخصاً يفقد صوابه موقتاً بسبب الغيرة، ولكنها قد تمنع المجرمين الصغار، إذا كانوا مالكين لقواهم العقلية، من التوسع في جرائمهم. ويشيرون إلى حقيقة أن اللصوص في الولايات المتحدة وبريطانيا، نادراً ما يحملون سلاحاً، فإذا ألقي القبض عليهم يعاقبون فقط عن جريمة الكسر والاقتحام التي هي أقل خطورة بكثير من جريمة السطو المسلح. وبدون حملهم للسلاح لن يتمكنوا من اللجوء إلى السلاح، إما ضد صاحب المنزل أو الشرطة. ويعتقدون أن هذا المثال يقدم دليلاً على تأثير الرادع القانوني.

يتعلق التأكيد الرابع بالاقتصاص والانتقام. لا يرى مؤيدو عقوبة الإعدام ما هو خاطئ فيها. يحق لعائلات الضحايا معرفة أن القاتل لن يفلت من يد العدالة، وأنه كما قضى على حياة بريئة سوف يفقد الآن حياته. بالإضافة إلى ذلك، ما لم تؤمّن الدولة العقوبة التي تُرضي الرغبة بالاقتصاص فقد تقوم الأطراف الخاصة بتطبيق القانون على هواها وبالتالي قد تتفسخ الولايات المتحدة وتصبح مجموعة من العصابات الأمنية.

يشكل الخطأ في الأحكام القضائية أصعب حجة تواجه المدافعين عن عقوبة الإعدام وتفرض عليهم الرد عليها. يعترفون بإمكانية حصول أخطاء، حتى ولو لم يوافقوا على رأي اللورد فورتسكي القائل انه من الأفضل أن يفلت 20 مذنباً من يد العدالة بدلاً من إعدام بريء واحد، ويجادلون بالقول إن الأخطاء تحدث دائما مهما بلغ النظام من الكمال، وأن السماح لعشرين مذنباً بالنجاة بحياتهم جريمة بحد ذاتها ضد المجتمع، حيث تكون حياة إنسان، يُدان خطأ في بعض الأحيان، ثمناً مؤسفاً إلا أنه ثمن علينا دفعه.

إن التنوع الكبير في أنظمة العدل الجنائي المطبقة في الولايات المختلفة، والتقلبات في تحديد المعايير المعتمدة في الأحكام القضائية، وفرض عقوبة الإعدام بشكل غير متناسب في القضايا التي يتهم فيها أفراد من الاقليات، دفع في النهاية المحكمة العليا إلى التدخل. تسلمت المحكمة عدداً من عرائض استئناف الأحكام خلال الستينات من القرن الماضي أظهرت عيوب النظام. كان من الممكن في حالات عديدة عكس الإدانات لأسباب تقنية دون أن تتطرق إلى جوهر مسألة دستورية عقوبة الإعدام. وفي النهاية، قرر قضاة المحكمة أنه بات عليهم معالجة هذه المسألة.


مذكرة رأي
في قضية فورمان ضد جورجيا
1972

تَعتبر المحكمة أن فرض وتنفيذ عقوبة الإعدام في هذه القضايا تُشكل عقوبة وحشية وغير اعتيادية، وتنتهك التعديلين الثامن والرابع عشر. بناءً على ذلك، تُقرر المحكمة عكس الأحكام الصادرة في كل قضية تبقى فيها عقوبة الإعدام المفروضة دون تبديل، وترد هذه الدعاوى للقيام بإجراءات قضائية إضافية بصددها.
____________________________________

في رأي كان غير متوقع على الإطلاق، صدر في حزيران/يونيو، 1972، ألغت المحكمة العليا بأصوات منقسمة بتقارب أحكام الإعدام الصادرة بحق حوالي 600 محكوم بالإعدام في السجون عبر البلاد. أكدت غالبية أعضاء المحكمة العليا في قضية فورمان ضد جورجيا، ان فرض عقوبة الإعدام التي كانت قائمة آنذاك، ينتهك تحريم إصدار عقوبات وحشية وغير اعتيادية. رغم أن المطالبين بإلغاء هذه العقوبة ابتهجوا لذلك القرار، تبين أنهم أساؤوا فهم قرار المحكمة. لم تقل غالبية أعضاء المحكمة أن عقوبة الإعدام بالذات تخالف الدستور، بل قالت فقط ان الأساليب القانونية التي اتبعت في تطبيقها كانت غير معقولة واعتباطية، وبذلك انتهكت التعديل الثامن للدستور.

خلال السنوات القليلة التالية، تكدّر المعارضون لعقوبة الإعدام، إذ قامت كل واحدة من الولايات السبع والثلاثين، التي فرضت في السابق عقوبة الإعدام، بإعادة كتابة قوانينها في محاولة لتلبية المقاييس الدستورية المفهومة ضمنياً في رأي المحكمة حول قضية فورمان. باشرت المحكمة العليا في عام 1986 مراجعة هذه القوانين الجديدة في محاولة لتحديد مقاييس واضحة يمكن العمل بموجبها. ووافقت في النهاية على قانون ولاية جورجيا بشأن عقوبة الإعدام بعد ان أعيد النظر به في قضية غريغ ضد جورجيا. قضى القانون الجديد على أنه يتوجب، في محاكمة على يد هيئة محلفين، أن تحدد هيئة المحلفين أولاً تجريم أو تبرئة المتهم، وإذا وجدت أن المتهم مذنب يُصوّت أعضاء هيئة المحلفين بصورة منفصلة حول نوع العقوبة. وعلى محكمة تضم هيئة محلفين وقاض أن تأخذ في عين الاعتبار الظروف المخففة كما الظروف المشددة، قبل إصدار الحكم، وتراجع بعد ذلك المحكمة العليا بصورة آلية كافة الأحكام الصادرة، بهدف الحماية ضد العقوبات المفرطة أو غير المتناسبة.

القضاة بوتر ستيوارت ولويس باول وجون بول ستيفنز
في قضية غريغ ضد جورجيا
1976

تُظهر قضايانا أيضا بوضوح أن المفاهيم العامة للمقاييس الصحيحة الخاصة بالأحكام الجنائية غير قاطعة. فعلى العقوبة أن تتوافق مع "كرامة الإنسان" التي هي المفهوم الأساسي المتضمن في التعديل الثامن. يعني ذلك على الأقل، أن لا تكون العقوبة "مفرطة". وعندما يجري البحث بالنسبة لمتى يجوز تطبيق الشكل المجرد للعقوبة (في هذه القضية، عما إذا كان من الممكن بالمطلق المجرد تطبيق عقوبة الإعدام كجزاء للقتل) بدلاً من تطبيق شكل للعقوبة (ملاءمة الحكم بالموت كعقوبة لمتهم معين ولجريمة معينة)، يصبح عندئذ للتحقيق في مدى "الإفراط" وجهان. الأول، لا يجب أن تشمل العقوبة إنزال عذاب غير ضروري واعتباطي مؤلم، والثاني، لا يجب أن تكون العقوبة غير متناسبة بشكل فادح مع خطورة الجريمة.
____________________________________

رفضت المحكمة الحجة القائلة إن الأفكار الحديثة حول الكرامة الإنسانية تتطلب إلغاء عقوبة الإعدام. بإمكان مجلس تشريعي، إذا اختار ذلك، أن يبرر عقوبة إعدام على أساس نظريات الاقتصاص أو الردع، وتستطيع السلطة التي تصدر الحكم أن تأمر بالتنفيذ بأتباع مقاييس قانونية محددة بوضوح. ارتأى عضوان فقط من أعضاء المحكمة العليا، هما وليام برينان وتورغود مارشال، أن عقوبة الإعدام بحد ذاتها غير دستورية.

التنوع الواسع لأساليب عقوبة الإعدام، وتطبيقها التعسفي والتمييزي في أحيان كثيرة، وعدم وجود مقاييس دستورية واضحة قابلة للتطبيق، أدوا إلى كسب بعض الدعم للقرار الأصلي الذي أصدرته المحكمة العليا عام 1972. لكن لم تعتبر غالبية الأعضاء أن عقوبة الإعدام بحد ذاتها غير دستورية، بل فقط الأساليب التي تتبعها الولايات في فرض هذه العقوبة القصوى. تجنبت القوانين التي أعيدت مراجعتها التطرق إلى العديد في هذه المشاكل. وقد فرض الآن نظام المراجعة الأوتوماتيكية على كافة الولايات التي تفرض عقوبة الإعدام، أن تؤمن بعض التماثل في التطبيق وان تتجنب القضايا المتحيزة.

إلا أن الكثير من القرارات اللاحقة للمحكمة العليا، التي حاولت فيها تجنب مقاربة الرأي المتماثل تجاه فرض عقوبة الإعدام، أعادت إثارة عناصر الشك التي اعترضت عليها المحكمة بالأصل. كان رئيس المحكمة العليا وارن بيرغر من غير ريب محقاً في تشديده، عند مراجعة عدة قضايا حكم فيها بالإعدام خلال السبعينات من القرن الماضي، على أن عقوبة الإعدام مختلفة، وبالتالي يجب التعامل معها وتقرير عقوبتها بحيث تتناسب مع الحزم إلى أكبر قدر ممكن. يتطلب ذلك أن يأخذ القاضي أو هيئة المحلفين في الاعتبار الكامل مجموعة متنوعة من الظروف المخففة أو المشددة. رغم الجهود التي بذلتها الولايات لتبرير هذه العملية فإن القرار حول فرض أو عدم فرض عقوبة الإعدام يعتمد في النهاية على قرار ذاتي. إذا اعتقدت هيئة المحلفين بأن جريمة قتل معيّنة شائنة فبإمكانها في أحيان كثيرة تبرير حكمها بعقوبة الإعدام، ولكن إذا كانت هيئة المحلفين متعاطفة مع متهم معّين، سوف تجد الظروف المخففة لتجنب فرض عقوبة الإعدام.

كما رأينا في المناقشات حول حقوق أخرى، فإن المعاني الدستورية تتغير بمرور الزمن، وكما تتغير الظروف. فما قد يبدو مناسباً في فترة زمنية معينة قد يبدو مختلفا للغاية في نظر جيل آخر، ومع أن النظام القضائي في الولايات المتحدة، في تفسيره للدستور، يلتزم بكلمات تلك الوثيقة، والى درجة ما، بنوايا واضعي مواد الدستور، فقد حاولت المحاكم جعل كلماتها ملائمة للتطبيق في المجتمع العصري.

يتضح من الأدلة التاريخية انه بنهاية القرن الثامن عشر، ورغم تحفظات البعض حول فعالية عقوبة الإعدام، قبلت أغلبية المواطنين في الولايات المتحدة وأوروبا عقوبة الإعدام كعقاب مشروع لارتكاب جرائم محددة. ولا زال، إلى قدر كبير، العديد من الناس في الولايات المتحدة، ومن المرجح انهم يشكلون الأغلبية، يقبلون ذلك. لاحظت المحكمة العليا قبل اقل من عشر سنين عدم حصول أي تحول كبير في موقف االناس تجاه عقوبة الإعدام. وإذا كان من المحتمل أن تحولا ما قد بدأ، إلا انه يبقى من الصعب القول إلى أي مدى سيذهب.

قد يكون أحد الرواسب المتبقية حول هذا الأمر أنه على الرغم من قيام محاكم الاستثناف بتدقيق أشد بأحكام الإعدام اثر صدور توجيهات المحكمة العليا بذلك، فإن الدراسات تبين أن عقوبة الإعدام لا زالت تطبق بنسبة غير متكافئة على المتهمين من مجموعات الاقليات.

تمثل عامل ثانٍ باكتشاف عدد من الادانات الخاطئة يفوق بكثير مما كان يُفترض. في حالات عديدة، لم يحصل متهمون فقراء على مساعدة قانونية ملائمة من محامين عينتهم المحاكم إذ كان هؤلاء ضعيفي الإلمام بالقانون الجنائي. مؤخراً، أدت مشاريع نُفذت في عدة كليات حقوق إلى تشكيل فرق من طلاب الحقوق للقيام بنوع التحقيق، الذي كان من المفروض أن يقوم به فريق حقوقي ممول بصورة ملائمة قبل المحاكمة، والذي يقدم أدلة قاطعة بأن المحكوم عليه لم يرتكب الجريمة بالفعل.

فإذا لم تلقِ هذه الدراسات بحد ذاتها ظلالاً من الشك حول جدارة النظام بالتعديل عليه، فإن الابتكارات التكنولوجية الجديدة حققت ذلك. خلال السنوات الحديثة، أدى فحص الحمض النووي (DNA) إلى إبطال عشرات أحكام عقوبة الإعدام عبر الولايات المتحدة. يمكن استخدام أدلة مادية تؤخذ من جسد ضحية اغتصاب لتحديد هوية المغتصب بما يقارب اليقين. أُعفيَ من عقوبة الإعدام عدة رجال حُكم عليهم بها في جرائم اغتصاب وقتل بعد أن أظهر فحص الحمض النووي، الفحص الذي لم يكن متوفراً عند وقت محاكمتهم، بأنهم ليسوا الفاعلين. وفي قضايا غير الاغتصاب، كانت تُستخدم سابقاً عينات من الدم لكي تظهر فقط ما إذا كان الدم الموجود على معطف المتهم هو من نفس فئة دم الضحية أم لا. إلا أن التحاليل الحديثة بإمكانها أن تُثبت بدقة ما إذا كان الدم يعود فعلاً لفرد معين. ومرة أخرى، أدى استخدام هذه التحاليل الجديدة إلى إبطال أحكام بالإدانة.

لا تُعزز الأدلة من هذا النوع حجج المطالبين بإلغاء عقوبة الإعدام فحسب، بل وتؤثر أيضاً على مؤيدي الإبقاء على هذه العقوبة من بين الأحرار والمحافظين على حد سواء. تقع، في جوهر نظام العدل الجنائي لبلد ديمقراطي، الفكرة القائلة إن النظام سوف يعمل بإنصاف، وبأن أخطاءه سوف تكون قليلة ومتباعدة، وبأن كل فرد سوف يحصل على عدالة متساوية أمام القانون. لكن أصبح واضحاً، خلال السنوات القليلة الماضية، للعديد من المواطنين في الولايات المتحدة أن نظام عقوبة الإعدام يعاني من الخلل ويحتاج إلى إصلاح.


نص غير منشور لرأي مخالف
لقاضي المحكمة العليا، فرانك مورفي
1946

لا يتوفر لدينا ما يرشدنا إلى تحديد ما هو وحشي وغير اعتيادي، باستثناء ضمائرنا بالذات. فمن المحتمل أن تعتبر عقوبة منصفة اليوم وتعتبر وحشية غداً. ولهذا إننا نتعامل مع مجموعة من الثوابت. يجب أن ينبع قرارنا، بالضرورة، من العناصر المتعددة التي تتشكل منها معتقداتنا، ومن خلفياتنا، ودرجة إيماننا بكرامة الشخصية الإنسانية.

____________________________________________

في عام 2000، فاجأ البلاد جورج رايان حاكم ولاية إلينوي المحافظ عندما طلب تعليق عمليات الإعدام في تلك الولاية. أعلن انه حدثت أخطاء كثيرة، جداً وأنه قبل أن ينفذ حكم الإعدام بإنسان آخر يجب اتخاذ الاحتياطات للتأكد من أنه حصل على محاكمة منصفة، ومن توفر مساعدة قانونية ملائمة له من قبل محامٍ، ومن أنه تم تقييم وزن جميع الأدلة وأخذها في عين الاعتبار. ودعا الحكام والمجالس التشريعية في الولايات الأخرى إلى إجراء تدقيق وثيق بنظام عقوبة الإعدام لديهم.

وافقت المحكمة العليا على سماع عدة قضايا، وان لم تهاجم عقوبة الإعدام بحد ذاتها، فقد أثارت التساؤل حول تطبيقها على مجموعات معينة، كالقاصرين (الذين كانوا سوف يتعرضون لعقوبة الإعدام فيما لو كانوا بالغين)، والمتخلفين عقلياً. في حزيران/ يونيو 2002، أصدرت المحكمة قرارين اثنين أشارا إلى أن قضاة المحكمة سمعوا الجدال الدائر حول عقوبة الإعدام، وان بعضهم على الأقل يشاركون الناس في القلق المتعاظم بشأن الإنصاف في تطبيق هذه العقوبة. في إحدى القضايا، وافقت أغلبية قضاة المحكمة على أن الرأي العام التحم حول الفكرة القائلة بأن إعدام المتخلف عقلياً يشكل بالفعل عقوبة وحشية وغير اعتيادية. كان يُشكّل الرأي القائل بعدم جواز تطبيق عقوبة الإعدام على الذين لا يفهمون طبيعة جريمتهم أو عقوبتهم عنصراً رئيسياً في القانون العام الانجلو -- أميركي. وقد اعتُبر الجنون منذ زمن طويل على أنه وسيلة دفاعية ضد العقوبة الوحشية، واعتبر الناس أن المجرم المختل عقلياً يجب إدخاله إلى مؤسسات لعلاجه وليس إعدامه.

قي قضية أخرى، قيدت المحكمة العليا سلطة القضاة في فرض عقوبة الإعدام بمحض إرادتهم، ومنحت سلطة اكبر لهيئة المحلفين في إصدار عقوبة الإعدام. وفي حين يكون بإمكان المرء أن يجادل بأن ذلك يزيد من تأثير العواطف الشعبية على الأحكام، فإنه أيضاً يعزز سلطة ومسؤولية هيئة المحلفين، والتي تشكل، حسب رأي القاضي انطونين سكاليا، جوهر نظام العدل الجنائي الأميركي.

من الصعب القول إذا كانت إعادة التقييم الجارية هذه سوف تقود إلى إلغاء عقوبة الإعدام. ولكن أقل ما يمكن أن ينتج عنها هو تأمين تطبيق هذا الشكل، الأشد قساوة بين كافة الأشكال الأخرى من العقوبات، بموضوعية وإنصاف أكثر. لا ينظر في الولايات المتحدة في بداية القرن الواحد والعشرين إلى أن عقوبة الإعدام تنتهك تحريم التعديل الثامن للعقوبة الوحشية وغير الاعتيادية، بل يرى أن تطبيقها الخاطئ هو ما يشكل انتهاكاً لهذا التحريم.


قراءات إضافية

Larry Charles Berkson, The Concept of Cruel and Unusual Punishment (Lexington, Mass.: D.C. Heath & Company, 1975).

Charles L. Black, Jr., Capital Punishment: The Inevitability of Caprice and Mistake (2nd ed., New York: W.W. Norton, 1981).

Walter Burns, For Capital Punishment: Crime and the Morality of the Death Penalty (New York: Basic Books, 1979).

John Laurence, A History of Capital Punishment (New York: The Citadel Press, 1960).

Michael Meltsner, Cruel and Unusual: The Supreme Court and Capital Punishment (New York: Random House, 1973).

Louis P. Pojman and Jeffrey Reiman, The Death Penalty — For and Against (Lanham, MD: Rowman & Littlefield, 1998).


تاريخ النشر: 08 تموز/يوليو 2004 آخر تحديث: