![]() |
|
مقدمة:
"…أن حكومة من الشعب، يختارها الشعب، من أجل الشعب، يجب ألا تزول من على وجه هذه الأرض."
الرئيس أبراهام لينكولن، خطاب غيتيزبرغ، عام 1863
في حفل افتتاح المقبرة القومية في غيتيزبرغ، وفي غمرة حرب أهلية كبرى تمّ خوضها للحفاظ على الولايات المتحدة كدولة، ألقى الرئيس أبراهام لينكولن خطاباً ختمه بجملة مدوية لعلّها أكثر تعريف للديموقراطية شيوعاً في تاريخ أميركا. وقد أشار بعبارة "حكومة من الشعب، يختارها الشعب، من أجل الشعب" إلى أن العناصر الأساسية للحكم الديمقراطي، الذي وصفه على أفضل نحو، تنطبق على كل بلد يطمح لأن يكون مُجتمعاً ديمقراطياً. إن ممارسة الديمقراطية أمر عسير، بل لعلّها الأكثر تعقيداً وصعوبة من كل أشكال الحكم الأخرى. إنها حافة بالتوترات والتناقضات، وتتطلب من القيمين عليها بذل كل جهد وعناية في سبيل نجاحها. الحكم الديمقراطي لم يُصمم للعمل بكفاءة، بل ليكون عُرضة للمحاسبة. قد لا يكون للحكم الديمقراطي قدرة العمل بسرعة عمل الحكم الدكتاتوري، لكنه ما أن يلتزم سبيلاً للعمل يمكنه الاعتماد على مصادر عميقة من الدعم الشعبي. الديمقراطية، لا سيما في شكلها الأميركي، ليست مُنتجاً ناجز الصنع، لكنها في تطوّر دائم. لم تتغير الأشكال الخارجية للحكم في الولايات المتحدة كثيراً في القرنين الماضيين، ولكننا إذا نظرنا إلى ما يتجاوز الظاهر، نلاحظ الكثير من التغييرات. رغم ذلك، يعتقد الكثير من الأميركيين، عن حق، أن المبادئ الأساسية التي تكمن في أساس نظام حكمهم تنبع مباشرة من الأفكار التي كان أول من أعلنها واضعو الدستور عام 1787. حاولنا في هذه المقالات، أن نشرح طبيعة بعض هذه المبادئ، متناولين بعضاً من تطورها التاريخي وموضّحين سبب أهميتها لعمل الحكومات، في الولايات المتحدة بوجه خاص، وللحكم الديمقراطي بوجه عام. وحيث أن أي حكم ديمقراطي هو نظام متطور، تشير المقالات إلى بعض عيوب نظام الحكم الأميركي، وكيف حاولت الدولة إصلاح تلك العيوب. لا أحد يدّعي أن النموذج الأميركي، رغم نجاحه الباهر في الولايات المتحدة، هو النموذج الذي يجب أن تتبعه كل الأنظمة الديمقراطية. على كل بلد أن يقيم حكماً ينبع من ثقافته وتاريخه. لكن هذه المقالات تحدد مبادئ جوهرية ينبغي أن تكون متواجدة، بطريقة أو بأخرى، في كل حكم ديمقراطي. على سبيل المثال، إن الطريقة التي تُتّبع لسن القوانين قد تختلف كثيراً بين بلد وآخر، ولكن أيّاً كانت تلك الطريقة فينبغي أن تتقيد بالمبدأ الأساسي المتمثل في أن على المواطنين أن يكونوا معنيين بعملية صنع القوانين وأن يشعروا بأنهم هم أصحاب هذه القوانين. ما هي تلك المبادئ الأساسية؟ لقد حددنا 11 مبدأً نعتقد أنها تُشكل العنصر الأساسي لفهم كيف تطورت الديمقراطية وكيف تعمل في الولايات المتحدة. * الدستورية: في * الفدرالية، حكومات الولايات، والحكومات المحلية: الولايات المتحدة فريدة في نظام حكمها الفدرالي، حيث تتشارك في قدرة وممارسة الحكم والسلطة حكومة قومية، مع حكومات للولايات، وحكومات محلية. وفي حال لم يلائم هذا النموذج دولاً أخرى، تبقى فيه دروس يمكن الاستفادة منها. فبقدر ما تكون الحكومة بعيدة عن الشعب، بقدر ما تقل فعاليتها، وبقدر ما تقل الثقة بها. لكن وجود حكومات للولايات وحكومات محلية، يسمح للأميركيين رؤية بعض مسؤوليهم المنتخبين عن كثب. ويمكنهم ربط السياسات والبرامج مباشرة بالرجال والنساء الذين وضعوها والذين يطبقوها. إضافةً إلى ذلك، تجعل لامركزية السلطة من الأصعب بكثير تولي السلطة بطريقة غير مشروعة. إن المبدأ القائل بوجوب أن تتميز السلطات والمسؤوليات في الأنظمة الديمقراطية بصفة اللامركزية قد لا يهم كثيراً في البلدان الصغيرة المتجانسة السكان نسبياً، ولكنه يمكن أن يكون عنصر وقاية مهماً في البلدان الكبيرة المتنوعة السكان. * سن القوانين: * القضاء المستقل: * صلاحيات الرئاسة: * دور وسائل الإعلام الحرة: * دور جماعات المصالح: * حق الشعب في أن يعرف :قبل هذا القرن، إذا أراد الناس أن يعرفوا كيف تعمل حكوماتهم، كانوا يتوجهون إلى مقر الاجتماعات للإصغاء إلى المناظرات والمناقشات. أما اليوم، فهناك بيروقراطيات ضخمة معقّدة، وقوانين وأنظمة يقع بعضها في مئات الصفحات، وعملية تشريعية، حتى ولو كانت خاضعة للمحاسبة من قبل الشعب، قد تكون مبهمة ليسمح لأكثرية الناس بفهمها. في النظام الديمقراطي، على أعمال الحكم أن تكون شفافة قدر الإمكان، أي أن المداولات والقرارات يجب أن تكون مُتاحة لتدقيق الناس. من الواضح أنه لا يجوز أن تكون كل أعمال الحكومة علنية، ولكن للمواطنين الحق في معرفة كيف تُصرف أموال الضرائب التي تجبى منهم، وما إذا كانت المحاكم تتمتع بالكفاءة والفعالية، وما إذا كان المسؤولون المنتخبون يتصرفون بمسؤولية. إن كيفية توفير مثل هذه المعلومات تختلف بين حكومة وأخرى، ولكن ما من حكم ديمقراطي بوسعه العمل بسرية تامة.
إذا كانت "الديمقراطية" تعني حكم الأكثرية، تبقى كيفية معاملة الأقليات من أهم مشاكلها. لا نعني بتعبير "الأقليات" الناس الذين صوتوا ضد الحزب الفائز أو الجهة الفائزة في الانتخابات، بل أولئك الذين يختلفون بصورة جليّة عن الأكثرية بسبب العرق، أو الدين، أو الأصل الإثني. المشكلة الكبرى في الولايات المتحدة هي مشكلة العرق؛ فلم يتم تحرير العبيد السود إلا بحرب أهلية دموية، ومن ثم لم يتوصل الملونون إلى ممارسة حقوقهم الدستورية بحرية إلا بعد انقضاء قرن من الزمن على ذلك. ما زالت قضية المساواة العرقية من القضايا التي تحاول الولايات المتحدة جاهدة معالجتها حتى اليوم. ولكن هذا الأمر يُمثّل جزءاً من الطبيعة المتطورة للديمقراطية بدءاً من العمل في سبيل جعل المجتمع أكثر شمولاً، وفي سبيل منح أولئك الذين يختلفون عن الأكثرية، لا الحماية من الاضطهاد فحسب، بل أيضاً الفرصة للمشاركة في حياة المجتمع كمواطنين كاملي المواطنية ومتساوين مع غيرهم. وهناك العديد من الأمثلة عن الدول التي عاملت، أو تُعامل، مواطنيها بطريقة دموية ورهيبة، والمحرقة النازية لليهود ليست سوى الصورة الأوضح عن ذلك. ولكن ما من مجتمع يمكنه أن يطمح لأن يُسمي نفسه مجتمعاً ديمقراطياً إذا كان يستثني بصورة منتظمة جماعات معيّنة من سكانه من الحماية الكاملة للقوانين. * السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية :في الأزمنة القديمة، كانت المسؤولية الرئيسية للقائد تتمثل في قيادة القوات العسكرية لمجتمعه، إما للدفاع عن ذلك المجتمع أو لإخضاع مجتمع آخر. وغالباً، ما كانت شعبية القائد العسكري الناجح تقوده إلى السعي نحو السيطرة على الحكم بالقوة؛ ومن يسيطر على القوات العسكرية يمكنه بسهولة إزاحة الآخرين جانباً. لقد شهدنا في الزمن المعاصر، ولمرّات عديدة جداً، عقيداً أو جنرالاً في القوات المسلحة يستخدم سطوة هذه القوات للقيام بانقلاب يطيح الحكم المدني. أما في النظام الديمقراطي، فينبغي ألا تكون القوات العسكرية خاضعة لسيطرة السلطات المدنية فحسب، بل ينبغي أن تكون لديها أيضاً ثقافة تؤكد أن دور القوات المسلحة هو خدمة المجتمع لا حكمه. يصبح هذا الأمر أسهل تحقيقاً عندما يكون الجيش جيش مواطنين، أي عندما يكون أفراده من كل فئات المجتمع ينخرطون فيه لمدة مُعينة يعودون بعدها إلى الحياة المدنية. ولكن المبدأ يبقى هو نفسه: يجب أن تكون القوات العسكرية خاضعة للسلطة المدنية؛ ومهمتها هي حماية الديمقراطية لا الحكم. يمكننا استنتاج بعض الأفكار الرئيسية من هذه المقالات. أولها وأهمها، هو أن الشعب هو المصدر الأساسي لجميع السلطات. ودستور الولايات المتحدة يعلن ذلك بوضوح في أول كلماته: "نحن شعب الولايات المتحدة.. نضع ونُنشئ هذا الدستور". كل سلطات الحكم يجب أن تنبع من الشعب، ويجب أن تكون مقبولة منه بأنها سلطات مشروعة. هذه المشروعية تتحقق بطرق متنّوعة، منها عمليات صنع القوانين والانتخابات الحرة النزيهة. هناك مبدأ عام ثانٍ هو وجوب مبدأ الفصل بين السلطات الذي يهدف لمنع ازدياد قوة جزء من الحكم لدرجة تمكّنه من تقويض إرادة الشعب. ومع أن منصب الرئيس يُعتبر دائماً أقوى منصب في الحكومة الأميركية، فإن الدستور يحدّ من صلاحيات الرئيس ويفرض عليه أن يعمل بالتعاون مع السلطتين الأخريين ومع القوة التي تشكّلها أصوات الناخبين. ومع أنه يبدو أن السيطرة المدنية على القوات العسكرية تعطي الكثير من السلطة للرئيس، فإن الثقافة التي تستند إليها القوات العسكرية في المجتمع الديمقراطي تحول دون إساءة استخدام تلك القوة. كما أن المحاكم تضع حدوداً، لا لأعمال السلطة التنفيذية فحسب، بل لأعمال السلطة التشريعية أيضاً. في النظام الديمقراطي، يجب أن يكون الحكم متوازناً، ويجب أن تُقدّر كل أجزاء الحكم الحكمة من ذلك التوازن وضرورته. ثالثاً، وجوب احترام حقوق الأفراد والأقليات، وعدم جواز استخدام الأكثرية لقوتها كي تحرم أي إنسان من حرياته الأساسية. قد يكون هذا الأمر صعباً في أي نظام ديمقراطي في أغلب الأحيان، خاصةً إذا كان سكان المجتمع المعني متنوعي الانتماءات (العرقية، والإثنية، والدينية) وتختلف آراؤهم في صدد مواضيع هامة. ولكن ما أن تحرم الحكومة فئة معينة من الناس من حقوقها، فإن حقوق كل الناس تُصبح في خطر. كل هذه الأفكار تتضمنها أوراق الديمقراطية، وكل من مواضيعها يؤيد هذه المبادئ العامة. إن إرادة الشعب تتحقق عن طريق إجراء إنتخابات حرة ونزيهة، وبواسطة إنشاء القوانين، وقيام صحافة حرة تتقصى أعمال الحكومة، وتأمين حق الناس في معرفة ما تقوم به الحكومة. تعبّر إرادة الشعب عن نفسها من خلال مجموعات أصحاب المصالح، ولو كانت هذه المجموعات غير متوازنة قليلاً. إن الفصل بين السلطات في الولايات المتحدة هو أمر يفرضه الدستور، وهو وثيقة أساسية يقدّسها الشعب الأميركي تقريباً. كما أنه أمر يتبيّن من القيود المفروضة على الحكم، والسيطرة المدنية على القوات العسكرية، والحكم الفدرالي. تكون جميع حقوق الأقليات مضمونة من خلال العديد من السبل، وأهمها القضاء المستقل. لكن هل يمكن اعتماد هذه المبادئ في ثقافات أخرى؟ ليس هناك من جواب بسيط لهذا السؤال، لأن نجاح أي نظام حكم يعتمد على الكثير من المزايا المتداخلة. خلال المرحلة الاستيطانية من التاريخ الأميركي، لم يكن في وسع الحكم الإمبريالي في لندن أن يمارس سيطرة مُحكمة على مستوطناته الأميركية البعيدة، ولهذا انتقلت السلطة إلى الهيئات التشريعية المحلية. أدى هذا بدوره إلى قيام نظام فدرالي تضمن أحكامه دستور عكس الوضع التاريخي الخاص لشعب الولايات المتحدة في ذلك الوقت. إن التجاوزات التي كانت تُنسب إلى الملك البريطاني أدت إلى فرض قيود على السلطة التنفيذية، في حين كوّنت تجربة مليشيا المواطنين أساس مبدأ السيطرة المدنية على القوات العسكرية. أما ضمان حقوق الأفراد فتبيّن أنه كان أمراً أشد صعوبة، ولكن لدى تطور الديمقراطية في الولايات المتحدة، توسع نطاق حقوق الناس من حقوق محصورة بالبيض من الرجال أصحاب الأملاك إلى حقوق تشمل الرجال والنساء من كل الأعراق، والألوان، والمعتقدات. والتنّوع، الذي كان يُعتبر في الأصل مشكلة للحكومة، أصبح أحد أعظم مكامن قوة الديمقراطية. بسبب وجود هذا التنوع الكبير من الناس والأديان والثقافات في البلدان الديمقراطية الكبرى، فإن أي محاولة لفرض نمط واحد من الحياة كان سوف يؤدي إلى كارثة. وبدلاً من مكافحة التنوّع، جعل الشعب الأميركي هذه الميزة حجر الزاوية لإيمانهم الديمقراطي. سوف يكون على البلدان الأخرى من خلال تجربتها الديمقراطية، والديمقراطية هي دائماً تجربة، أن تدرس كيف يمكنها تحقيق المزايا التي تم وصفها في هذه المقالات والمحافظة عليها في إطار ثقافتها الخاصة. ما من طريقة وحيدة لذلك؛ فالديمقراطية، كما قال الشاعر والت وايتمان، هي مواقف متعددة غالباً ما تُناقض بعضها بعضاً. ولكن إذا ركّزنا نظرنا على المبادئ الأساسية، وهي أن السلطة النهائية تكون في يد الشعب، وأن على سلطات الحكم أن تبقى مقيدّه، وأن على حقوق الأفراد أن تكون مُصانة، عند ذلك، من الممكن إيجاد طرق عديدة لتحقيق هذه الغايات. معلومات عن كاتب المقال: ملفين يوروفسكي، محرر هذه السلسلة، هو أستاذ مادة التاريخ والسياسة العامة في جامعة كومنولث فرجينيا، وهو مؤلف أو محرر أكثر من 40 كتاباً. من أحدث مؤلفاته: "محكمة وارن" (2001)، وكتاب "مسيرة الحرية: تاريخ دستوري للولايات المتحدة" (طبعة ثانية 2001)، الذي شاركه في تأليفه بول فينكلمان. |